لم تكن بنود البيان الوزاري الأخير كافية لإحباط حملة «جنسيتي». فاليوم، عند الساعة الرابعة، سيجتمع في ساحة النجمة أبناء لم تكفِ جنسية والدتهم اللبنانية لمنحهم جواز السفر المظلّل بالأرزة. هناك، سيرسمون وطنهم على الورق
رنا حايك
لم ينتظر محمد مرسوم التجنيس ليقرّ بانتمائه إلى الوطن الوحيد الذي عرفه في حياته. غاب ابن السنوات الأربع في غرفته زهاء ساعة، وعاد بأوراق ثبوتية ابتدعها بنفسه. لوّن الورقة البيضاء. ألصق عليها صورة شخصية له وكتب عليها بخطّه المتعرج: «أنا لبناني». أحكمها بدبوس صغير على صدره واختال بها في المنزل دون أن ينسى تقديم عرض سخيّ لوالده الفلسطيني: «بدّك أعملك متلها؟»
هذه الحكاية التي روتها هنادي، والدة محمد، لكريمة شبو، مسؤولة الوحدة القانونية في مجموعة الأبحاث والتدريب للعمل التنموي ومنسّقة حملة «جنسيتي حق لي ولأسرتي» ساهمت في تقرير نوع النشاط الذي ستقيمه الحملة بعد ظهر اليوم، أمام مجلس النواب. فالرسم، كما تقول شبو، هو «الوسيلة الأسهل للتعبير بالنسبة للطفل». لذلك، تقرّر، بمناسبة يوم الطفل العربي، تنظيم ورشة رسم يشارك فيها الأطفال من آباء غير لبنانيين بإشراف اختصاصيين وفنانين، تختتم اليوم بنشاط تعبيري تحت اسم «ألوان هويتي»، يهدف إلى تعميق الوعي لدى الأطفال بحقهم في التّمتع بجنسية والدتهم اللبنانية.
ليست هذه الحكاية سوى فصل من فصول كتاب ضخم يسرد مآسي عائلات تعيش على هامش المواطنة، تمنع عنها رعاية الدولة الصحية والاجتماعية، ويدفع ظلم القانون نساءها إلى عدم الاعتراف بوالد أبنائهن، لأنها الطريقة الوحيدة لمنحهم الجنسية اللبنانية، كما يدفع شبابها إلى اللجوء إلى أوضاع غير قانونية أحياناً، لزوم العيش في وطن يرفض احتضانهم، بينما يصيب في الصميم «مؤسسة العائلة» التي يدافع عنها في المحافل الاجتماعية والدينية.
لم تكن هنادي، والدة محمد، تدرك أنها ستتحول، بعد أعوام من زواجها بفلسطيني، إلى سجينة في وطنها. كان زوجها قد جنّس في السبعينيات، فنقلت نفوسها إلى نفوسه في مدينته، صيدا، بعد الزواج، كما استصدرت إخراج قيد لمحمد بعد ولادته عام 2003. لكن سحب الجنسية من زوجها عام 2004 منعها من تجديد هويتها ومن استخراج هوية لمحمد.
«ما خليت باب ما طرقته»، تقول، وتكمل: «بنتي ما حتقدر تقدّم بروفيه هالسنة بلا إخراج قيد. ما قدرت زور إختي المريضة بسوريا. حاسة كإني بحبس». أما زوجها، فرغم إتقانه العمل على الرادار في المطار، وهو عمل مارسه في الخليج لسنوات، إلا أنه يعمل كهربائياً في لبنان.
أما ندى، فقد كلّفها قهرها على أولادها وإحساسها بالظلم الذي يتعرضون له الكثير من صحتها. فقد تعرّضت عام 1998، بعدما رُفض الملحق الذي احتوى على طلبها بتجنيس أبنائها من الوالد السوري، لفالج لا تزال تعالج منه حتى اليوم. أما الضريبة الأخرى، فقد كانت كرهها لزوجها الذي تزوجته عن حب رغم معارضة أهلها: «كان يعمل في دبي عام 1992 وتقاعس عن القدوم لتقديم الطلب، فصدر مرسوم التجنيس عام 1995 ولم يشمل أبنائي. لم أغفر لزوجي حتى الساعة تقاعسه».
فقد تسبّب هذا التقاعس بحرمان أبنائها من جميع حقوقهم المهنية والمالية والصحية. وحين تعرّض ابنها لحادث سير وجلست تصرخ وتبكي على درج الوزارة، قال لها أحد الموظفين: «روحي حكّميه بسوريا!».
لم تعرف ماذا تقول لابنتها تهاني التي فلتت أعصابها ذات يوم في الأمن العام وهي تجدد إقامتها. يومها، صرخت تهاني، ابنة 16 عاماً، في وجه الموظف وخرجت مجهشة بالبكاء: «مشيت كل المسافة من المتحف عالبيت، جنب مستشفى المقاصد، وهي عم تبكي».
تشعر ندى بالإهانة، وبالظلم، وتتساءل «لماذا أسدد جميع المستحقات للدولة، من مياه وبلدية وكهرباء، مثلي مثل غيري من المواطنين، بينما تسرق هي حق أبنائي في العيش بكرامة في وطنهم؟».
لا يتعلق الظلم اللاحق بأبناء الأم اللبنانية بالطبقة الاجتماعية التي تنتمي إليها الأسرة، ولا بجنسية الزوج. فزينة، المتزوجة من فرنسي، تفضّل أن تربي أبناءها هنا حيث تعيش عائلتها رغم أن ابنها ممنوع من أن يكون «بطلاً لبنانياً». فرغم تفوّقه في أحد مجالات الرياضة، إلا أنه نبّه بعدم تمكّنه من خوض مباريات مع المنتخب اللبناني أو الحصول على كأس.
تتوقع زينة هجرة مستقبلية محتملة لأبنائها إلى فرنسا، الدولة التي تقدم لهم الكثير رغم طلاقها من والدهم. «ما رح خلّيهن يتعلّقوا ببلد ما حيقدّملهن شي»، تقول. فهذا بلد يدعو مغتربيه إلى العودة، بينما يلفظ أبناءه.
فإلى حين تتوصّل حملة جنسيتي إلى انتزاع حق اللبنانيات الكامل بالمواطنة، تتعرّض أسر اللبنانيات المتزوجات من أجانب إلى أفدح أنواع التمييز العنصري، ما يمنع عنها أي إحساس بالاستقرار والأمان في هذا «الوطن النهائي لجميع أبنائه».
تشرح رولا مصري، منسّقة حملة جنسيتي في لبنان، الوضع، قائلة: «توقّف العمل في لبنان بعد عدوان تموز 2006 عند مرحلة نشر الوعي بالقضية في الجامعات ومن خلال المؤتمرات. فقد حلّ الجمود على هذه القضية بسبب تخبّط البلاد في دوامة الوضع الأمني والسياسي السيئ».
لكن الجمود لم يطل ولم يكن كاملاً، فقد «أعدنا النظر بالاستراتيجية وقررنا التشديد على الناحية الخدماتية من خلال تقديم المساعدة القانونية والإجرائية للأمهات».
أما منذ تموز الفائت، فقد استأنفت الحملة العمل على المرحلة المطلبية، إذ تشرح رولا: «اعتصمنا أمام السرايا لإدراج مطلبنا برفع تحفّظ الدولة اللبنانية على المادة 9 من اتفاقية إلغاء جميع أشكال التمييز ضد المرأة في البيان الوزاري. لكن، في النهاية، قررت الحكومة في بيانها أن تلتزم بتلك الاتفاقية من دون أن تذكر آلية تطبيق هذا الالتزام. الآن نواصل مقابلاتنا الرسمية مع رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة، ونستكمل الضّغط لدى الكتل النيابية التي نستهدفها اليوم لتدرج قضيتنا في مشاريعها الانتخابية».
ويندرج نشاط اليوم ضمن سلسلة التّحركات التي تقوم بها الحملة منذ عام 2003 مع شركاء من مصر والأردن والمغرب والجزائر وسوريا. فبعد إتمام مرحلة إعداد الأبحاث والدراسات القانونية والميدانية، دخلت الحملة عام 2005 المرحلة المطلبية في لبنان. خلال ذلك الوقت، أصبح زوج المرأة الجزائرية يحصل على جنسية زوجته، بينما حققت المغرب مطالبها لجهة منح أبناء المرأة جنسية والدتهم، وأقرّ حق المصرية بمنح جنسيتها لأبنائها. انتقلت هذه البلدان إلى مرحلة مراقبة تطبيق الحق المكتسب بالقانون، بينما لا يزال لبنان عالقاً في المرحلة المطلبية.
«هذا الواقع يسهم في تشتّت العائلات، فالأبناء غالباً ما يؤثرون الهجرة، لأن تصريح العمل مكلف. كما يشعر الزوج الأجنبي بالإهانة، ما يخلق أوضاعاً غير صحية في الأسر»، كما تشرح كريمة شبو. يصعب حصر جميع أوجه المأساة: بين أطفال فتحوا عيونهم على وطن لا يعرفون غيره، رغم أنه يمنع عنهم حقوق المواطنة، وأمهات يسبّب لهن ذلك إحساساً بذنب لم يقترفنه، تعيش هذه الأسر حالة غربة، بينما تغرق في تفاصيل أوراق رسمية وروتين إداري خانق.


التمييز في قانون الجنسية

تعترف المادة الأولى من قانون الجنسية اللبناني بلبنانية «كل شخص مولود من أب لبناني»، فيما تذكر المادة الثانية حالة وحيدة تتيح للأم اللبنانية نقل جنسيتها لأبنائها: إذا كانوا غير شرعيين.
تناقض هذه النصوص المواثيق الدولية التي أقرت بالمساواة في المواطنة بين الجنسين، والمادة السابعة من الدستور اللبناني التي تعتبر «كل اللبنانيين سواء لدى القانون، وهم يتمتعون بالحقوق المدنية والسياسية ويتحملون الفرائض والواجبات العامة دونما فرق بينهم».
فبينما يمنح الرجل اللبناني زوجته الأجنبية جنسيته «بعد مرور سنة على تاريخ تسجيل الزواج في قلم النفوس»، تعجز المرأة اللبنانية المتزوجة من أجنبي عن تقديم أي من مقوّمات الأمان لزوجها وأبنائها. فالزوج لا يحصل على الإقامة اللبنانية وتصريح العمل إلا لقاء شروط شبه تعجيزية تتعلّق بضمانات مالية باهظة. أما الأبناء، فيحصلون على إقامة تتجدّد كل ثلاث سنوات ترتبط مجانيتها بالإفادة المدرسية، إذ إنها تنتهي بمجرد أن ينهي الأبناء دراستهم الجامعية.