تغيب الإحصاءات الدقيقة عن التحرّش الجنسي بالأطفال، مع تأكيد المختصين أن عدد الحالات التي تُتَابع من الناحيتين العلاجية والقانونية ضئيل جداً نسبة إلى عدد الضحايا الفعلي. إلّا أن الطفل سيحمل في لاوعيه آثار هذا الاعتداء، ولن يزيلها إلا العلاج. وفي معظم الأحيان يبقى الأمر سراً، خوفاً من الفضيحة. رنا وزينة قرّرتا خرق حاجز الصمت
حسن عليق ــ ربى أبو عمو
استيقظت زينة قبيل منتصف الليل على يد زوج خالتها تحت ثيابها الداخلية. كانت العائلة كلما أتت في الصيف من قطر شاركته منزله. في البدء، ظنّت ابنة الحادية عشرة أن فِعلَ «عمّو أحمد» يحصل لكل فتاة في عمرها. كان يتسلّل ليلاً إلى الغرفة التي تنام فيها مع شقيقتها. يتلمّس جسدها المرتجف خوفاً من تجربة لم تختبرها قبلاً.
وعت لاحقاً أن ما يجري هو أمر «غير طبيعي». صار ارتجافها أكثر حدّة. لكنها خشيت أن تبوح. باتت ليلى، شقيقتها الصغرى، ملجأها الوحيد، حين استيقظت مرة لتسأل «عمو أحمد» عما يفعله. «عم فتش عالبسينة»، كان جوابه. ركضت ليلى باتجاه الشرفة باحثة عن قطتها، فاختنفت زينة بعبارة تركت في نفس شقيقتها إحساساً بالذنب لم يفارقها بعد: «لولو .. ما تروحي». عادت ليلى فخرج «عمو أحمد». أخبرتها زينة بما تكابده كل ليلة، لكنها لم تعِ ما تسعمه.
صارت زينة تبغض العطلة الصيفية. دام صمتها سنوات، حتى قرّرت أخيراً إخبار زوج خالتها الأخرى، المتدين. لكن ارتياحها لم يدم طويلاً. فـ«الحاج» وضع يده على صدرها، محاولاً إقناعها بأن ما يفعله عديله يساعدها على الإحساس بجسدها كأنثى.
حادثتان رسّختا في نفسها إحساساً بالذنب. فالطفلة كانت تظن أن ما يصيبها ناتج من إغرائها لمن يعتدي عليها. إحساس أسهم في تكوين هويّتها الجنسية.
دخلت زينة الجامعة من دون أن تتمكن من بناء أي علاقة عاطفية صحيحة. كانت تفسح المجال للرجال كي يتقرّبوا منها، ثم تعلّقهم بها لتتركهم. هي رغبة لاوعيها بالانتقام.
قصدت زينة معالجاً نفسياً في الجامعة من دون نتيجة. بدأت تتناول أدوية للأعصاب. بعد نحو عام، سكنت مع شقيقها الذي اكتشف ما تتعاطاه. زاد الأمر من اهتزاز ثقة أهلها بها، لكنها في المقابل، قررت أن تصارحهم. انتظرت من عائلتها انتقاماً معيناً. وبالحد الأدنى، قطع صلتهم بالمعتدين. لكنها لم تواجه إلا الخيبة. ما أعدم ثقتها بهم، أما تدهور علاقة والدها بـ«المغتصبين» فلم يحصل إلا بسبب .. نزاع على ملكية أرض.
تخرّجت زينة من الجامعة. حاولت الانتحار. إلّا أن أحد أقاربها أنقذها بمحض الصدفة. هي الآن تعمل في دبي، وتبحث عن أمان، قد يساعدها على التصالح مع نفسها، على الأقل، يعيد إليها براءة لم تعشها يوماً.
زينة مجرّد رقم بين مئات الأطفال الذين يتعرضون للتحرش الجنسي في لبنان، ويبقون في الظل. أصواتهم لا تجد مساحتها للصراخ. مركز «الطب النفسي لحماية أطفال الحرب» رصد 69 حالة قبِل ذووهم اللجوء إلى المحاكم لإنصافهم خلال السنتين الماضيتين في لبنان. ويقدّر اختصاصيّون نفسيون في المركز، أن نحو 70 في المئة من الضحايا يرفضون الادعاء على المعتدي، وذلك عائد للخوف من الفضيحة، وخاصة أن أكثرية العائلات أقرب إلى العشائر، حيث يتحوّل رجالها إلى منتقمين لـ«جريمة الشرف»، فيقتلون الفتاة المعتدى عليها. وتجدر الإشارة إلى أن رقم 70 في المئة، هو أقل بكثير من الفتيات الضحايا، اللواتي لا يلجأن إلى العلاج. فالجهل، يمنع الأهل من التنبه إلى أهمية العلاج، لا بل استحالة شفاء الضحية من دون علاج.
وفي الدراسة التي ستطلقها منظمة «كفى عنف واستغلال» من بيت المحامي في بيروت اليوم، تبيّن أن 16.1 في المئة من الأطفال (جرت مقابلة 1025 طفلاً قبل حرب تموز 2006 وخلالها وبعدها) تعرضوا لأحد أشكال الإساءة الجنسية. وبين الأطفال المستطلعين، أقر 12.5 في المئة أنهم تعرضوا لفعل جنسي، و8.7 في المئة أنهم تعرضوا لمحاولة اعتداء جنسي، فيما تحدّث 4.9 عن إرغامهم على مشاهدة صور أو أفلام إباحية.
قصة أخرى بطلتها هذه المرة رنا، التي حاولت استباق ردات فعل لاوعيها، فخضعت للعلاج؛ ذاك اليوم، توقفَت عن عدّ المرّات التي ركضت فيها إلى الحمام للبكاء. تقوقعت بالقرب من المغسلة تعانق جسدها، تبحث فيه عن بقعة بقيت نظيفة منه. أخذت ترشّ نفسها بالماء علّها تطهّر أطرافها منه. لا جدوى. لفّت روحها بعطر أمها. تغلغل سحر الرائحة في روحها، فانتفضت. أتت اللحظة. سارعت ابنة الحادية عشرة إلى والدتها التي كانت تنفث سيجارتها في الصالة. ارتمت بين أحضانها وأجهشت بالبكاء. أخذت تتلّمس جسدها، ساعية للهرب إلى لحظات ولادتها الأولى. باتت مخيلتها مليئة بمشاهد ذات رائحة مقززة.
بدأت أمها تمشّط شعرها بيديها، وتسألها عن سبب هذا الانهيار المفاجئ. كانت رنا بحاجة إلى إخراج هذا الثقل من داخلها، فحكت الكثير: «أمي، قال لي زَوّجتُكِ نفسي. قبلتُ لأنني أحبه. أنزلني بعد ذلك إلى بار في مكان بعيد لا أعرفه. طلب لي كأس نبيذ. شربت الأوّل، الثاني... الخامس. حملني إلى مكانٍ لا أذكره. خلع ثيابه. اقترب مني، بدأ يتلمس جسدي...». توقفَت عن الكلام...
في الأيام التالية، لم تعد رنا سكرى. أخذها إلى بيت صغير استأجره في الجبل. وكانت قد طلبت منه إحضار فيلم «سندريلا» الأحدث في السوق. جلسا جنباً إلى جنب، وبدأت يداه تخترقان جسدها الصغير. هربت منه، صرخت به ليعيدها إلى المنزل. هذا النهار، بدأ الإحساس بالخوف يتآكلها.
عرفت رنا متأخرةً أن ما حصل معها يسمّى تحرشاً جنسياً. أدركت أمها على الفور أن ابنتها كانت ضحية. «ما زلتِ صغيرة، ووعيك عاجز عن إدراك الصحيح من الخطأ. أنت غير قادرة على الدفاع عن نفسك»...
حادثة عمرها ثلاثة أعوام، كانت رنا خلالها لا تزال تكتشف مظاهرها الأنثوية. خضعت للعلاج عند طبيب نفسي. هي الآن جيدة. عادت إلى الاندماج مع محيطها بعد أشهرٍ من انهيار قادها إلى عجز عن الاختلاط بالناس، وغادرها الإحساس بالذنب.


شهاداتان بلسان زينة ورنا

بعد لقائهما، قررت كلّ من رنا وزينة التحدّث بلغتهما عما أصابهما، لكي لا يتكرر ما حدث لهما مع أطفال آخرين. أما زينة، فطلبت نشر قصتها على صفحات «الأخبار»، وأرادت ذكر اسمها الحقيقي، وكذلك اسمي من اعتديا عليها، إلا أن «الأخبار» تتحفظ عن تلبية هذا الطلب، احتراماً لخصوصية العائلة، ولعدم إدانة أي شخص خارج الإطار القضائي.
تقول زينة: «لم يساندني أحد من أفراد عائلتي، سوى شقيقتي ليلى. هي بطلتي. أما من اعتديا عليّ فأرغب في قتلهما. ولن أعود إلى لبنان ما داما حيّين. لقد دمّرا طفولتي. حتى شقيقتي باتت تخاف من الشبان، فهي ترى في كل واحد منهم شخصية من اعتديا عليّ. أريد أن أفضحهما. شقيقتي أخبرت خالتي بما فعله زوجها معي، إلا أن الأخيرة لم تستطع إخباره، فهي تخاف أن يقتلها. هو مجرم حرب. قتل 6 شبان في مدينتنا خلال الحرب الأهلية».
أما رنا فتقول «رغبت في إعلان اسمي الحقيقي، ليعرف جميع الناس قصتي القاسية. فالشيء الأول الذي فكرت فيه هو كيفية حماية الفتيات الأخريات من هذا الشاب ومن أمثاله. أردت رفع دعوى ضده لحبسه، إلاّ أن أهلي رفضوا هذا الأمر خوفاً على سمعتي. كنت متيقنة من أنني سأربح الدعوى، لأنني أعرف أني على حق».
وتتابع «في بداية الأمر، شعرت معه بالأمان. كان يفعل الكثير لإرضائي. إلاّ أن هذا لم يكن من دون مقابل. بدأ يمارس الضغوط علي ويهدّدني بأنه سيتخلى عني إذا لم أتجاوب معه جنسياً. كنت أرفض إلى أن بدأت أخاف خسارته، وخصوصاً حين قال لي إننا الآن متزوجان. شعرت بأنني لا أزني. حتى إنه لم يتوقف يوماً عن وعوده لي بالزواج، وبأنه لن يتخلى عني لأنه يحبني».
«إلاّ أن هذا الشعور بالأمان لم يستمر. كنت أشعر بداخلي برفض ما. صرت أتقزّز من جسده. حين يقترب مني، أشعر بحاجة ماسة للصراخ ورميه بعيداً، حتى بدأت أشعر بآلام متواصلة في جسدي كله، والاختناق من اقترابه. أحسست بأنني كبرت فجأة. حلمت بالحب، بالهدايا الجميلة، بالخروج معه، والشعور بأن لديّ من يحبني مثل أصدقائي. فأكثر ما كان يضايقني هو أن ينعتني أصدقائي بالوحيدة، بينما هم يبدأون بسرد غرامياتهم».
لم أخبر أحداً بقصتي باستثناء أهلي، الذين أخبروني أن الناس قساة جداً في حكمهم، وسيضعون اللوم عليّ، باعتباري أنا من «سلّمت جسدي إليه».
أبكي كثيراً، أفكر في أنه لو لم يحدث معي ذلك. لو بقي عالمي محصوراً بالمدرسة، وبالشبان الذين يعجبون بي بين الحين والآخر. أسأل دائماً لماذا أنا؟ بعدها أعيد كلام أمي في رأسي، هي تجربة يجب أن أسعى إلى الاستفادة من كل سيئاتها».


د. جاكلين سعد: لا حل من دون معالج نفسي

ترى المعالجة النفسية جاكلين سعد أن السبب الرئيسي لعدم لجوء ضحايا الاعتداء الجنسي إلى العلاج أو المحاكم، هو خشية الأهل من «الفضيحة». وعادة ما يزداد التكتّم إذا كان المعتدي أحد أفراد العائلة. وقبل عام 2006، تضيف سعد، كان العدد الأكبر من المدّعين يُسقط الدعاوى بعد إجراء مصالحات داخل العائلة، من دون أن يتاح للقضاة التيقن من حادثة التحرش. أما اليوم، فتُعرَض الضحية المفترضة على اختصاصي من «مركز الطب النفسي لحماية أطفال الحرب»، للتأكد من وقوع التحرش. وتجزم سعد بأن معاينة الطفل تؤدي إلى معرفة صدقه من عدمه. وفي حال ثبوت الاعتداء، تستند المحاكم اللبنانية إلى المواد الواردة في الباب السابع من قانون العقوبات، التي تنص على معاقبة المتحرش بالطفل بالحبس من شهرين حتى الأشغال الشاقة التي لا تنقص عن 6 سنوات إذا كان المعتدى عليه لم يُتم الخامسة عشرة من عمره.
وتوضح المعالجة النفسية أن للتحرش الجنسي بيئة مساعدة، تتكون من عوامل عدة: غياب أحد الوالدين عن المنزل، أو اكتظاظه، فضلاً عن جهل أفراد العائلة، ووجود خلافات بين الوالدين والعنف الأسري. أما حصة الأسد في التحرش فهي لدى الكهول حسب ما قالت، لرغبتهم في إثبات استمرار قدرتهم على ممارسة الجنس.
آثار الاعتداء الجنسي، بحسب سعد، تبقى حاضرة عند الضحية، وبالتحديد في اللاوعي الذي يقرر وحده توقيت التحرك. ويظهر الانعكاس الأول لهذه الآثار في نظرة المعتدى عليه إلى ذاته: شعور دائم بقذارة جسمه، ما يقوده أحياناً إلى «معاقبة نفسه» عبر ممارسة الدعارة. وإضافة إلى ذلك، تَحمِل الضحية دائماً عقدة مزدوجة بالذنب، لاعتقادها أنها أغرت المعتدي، ولاقتناعها بأنها خانت ثقة والديها. وكلما عاملاها بشكل أفضل تعزز شعورها بالذنب. وفي هذه الحالة، تزداد سلبيتها، وتحاول لفت انتباههما من خلال اللجوء إلى الاستفزاز السلبي، فتزداد عدائيتها وانطوائيتها، أو تنهدم الثقة بالعائلة إذا كان المعتدي هو أحد أفرادها، وخاصة إذا كان الأب أو الشقيق الأكبر، وهو الذي يعد المثل الأعلى للطفل في كثير من الأحيان.
لا تقتصر التأثيرات على النفس، بل تتعداها إلى التحكم بالجسد، وحتى الهورمونات. فعادة ما يصبح من تعرّضوا للتحرش متطرفين في علاقاتهم العاطفية والجنسية. منهم من يفضل أبناء جنسه، وآخرون يصبحون باردين جنسياً، فيما تتعدد علاقات بعضهم الجنسية بشكل غير عقلاني بهدف الانتقام من أبناء الجنس الآخر. وتؤكّد سعد أنه لا مجال أمام من تعرّضوا لاعتداء جنسي سوى اللجوء للعلاج.
ربى...



اختيار الطبيب

غالباً ما يحار الأهل في اختيار الطبيب النفسي الموثوق لمعالجة ابنهم. وتقول المعالجة النفسية جاكلين سعد، إن نقابات الأطباء في الدول الغربية تتولى إرشاد الأهالي والمرضى إلى الأطباء الموثوق بهم. إذ تكون عملية التصفية بين الطبيب المناسب وغير المناسب، انطلاقاً من الشكاوى التي يقدمها المرضى بحق الأطباء الذين يرتكبون الأخطاء، لتتخذ النقابات بحقهم إجراءات عقابية متناسبة مع درجة الخطأ. أما في لبنان، فيبقى اختيار الطبيب «مسألة حظ»، وتكمن هنا أهمية اللجوء إلى جمعيات مختصة لإرشاد المرضى.