في بعلبك، تتوالى المفاجآت، فمدينة الشمس لا تحتوي على أضخم المعابد الرومانية في الشرق فحسب، بل اتضح أنها تختزن آثار أكبر حمّامات الشرق الرومانية

جوان فرشخ بجالي
على مرمى حجر من معبد الإله باخوس في بعلبك، اكتشف علماء آثار البعثة الألمانية بقايا أكبر حمّامات الشرق الرومانية. «حمّامات كان يدخلها المستحمّون بالمئات من بوابة واسعة تصلها بالطريق الروماني المؤدي إلى معبد فينوس»، كما تشرح البروفسورة مارغريت فان إس، مديرة المركز الألماني للدراسات في الشرق الأوسط، ومسؤولة البعثة في بعلبك.
لتكمل قائلة «عثرنا هذه السنة على مدخل الحمّامات وأتممنا التّنقيبات على الطريق الأساسية التي كانت تربط أقطاب المدينة بعضها ببعض».
وحالة الحمّامات المكتشفة جيدة جداً. فلقد عثر العلماء على أرضية الحمّام، وعلى برك المياه التي كان المستحمّون يستمدّون منها المياه، وعلى قنوات الجر والأقبية التي كانت تُستخدم للتدفئة. وهنا تجدر الإشارة إلى أن الشكل الهندسي للحمّامات الرومانية هو نفسه ذلك المتّبع اليوم في ما يسمى «الحمامات التركية»، التي ليست، في الواقع، سوى الامتداد التاريخي للحمامات اليونانية والرومانية. تتحدّث فان إس عن حمامات بعلبك، فتقول «إنها بقيت تُستعمل حتى فترة العصور الوسطى، حين تُركت وأهملت فسُرقت بعض حجارتها وضاعت معالمها تحت أطنان من التراب الذي تراكم على بقعة الأرض المتروكة تلك».
كذلك اكتشف الفريق تحت الحمّامات نظام التدفئة الذي كان يُستعمل لتسخين أرضية الحمّامات ولضخّ المياه الساخنة في البرك. وكان نظام التدفئة يتألّف من غرفة صغيرة يرتفع سقفها على أعمدة طينية مستديرة صغيرة يمرّ عبرها دخان الحرارة، فتَسخن وتمدّ الأرضية الرخامية بالسّخونة. وهنا تجدر الإشارة إلى أن نيران الحمّامات العامة لم تكن تطفَأ، بل يحافَظ عليها ليلاً ونهاراً لكي لا يبرد الطين والأرضية.
تشدّد فان إس على أن الحفريات تجري بحسب الأصول العلمية، لكن مع الاعتبار بأن هذا الموقع الأثري سيتحوّل قريباً إلى موقع سياحي، ما يعني أن العمل يجري مع المحافظة على جميع المعالم الهندسية ويُكتفى بإزالة الطبقات الترابية من فوقها بشكل علميّ يسمح بتحديد تاريخ الموقع بالتفصيل.
وهنا تجدر الإشارة إلى أن الفريق العلمي الألماني يتألف من 30 شخصاً يتقاسمون مختلف الجوانب في دراسة بعلبك التاريخية. ففيما بعض الأعضاء يدرسون هندسة المعابد، يعمل قسم آخر في موقع الحفرية، وينجز البعض الآخر دراسة تفصيلية عن بيوت بعلبك القديمة. وتقول فان إس «إن إحدى طالبات الدراسات العليا تعمل الآن على تأريخ بيوت بعلبك القديمة وعلى تحديد شكلها الهندسي. وقد وصلت إلى نتيجة تفيد أن بعضها يعود إلى فترة الحكم العثماني، فيما القسم الآخر تعود أساساته إلى فترة العصور الوسطى».
أما في المنطقة الممتدة بين بستان الشيخ ومجمع المعابد الرومانية، فقد سمح اكتشاف «أطلال» بيوت ـــ يقدّر العلماء أنها دمّرت خلال معارك ضارية جرت في تلك الفترة ـــ بتحديد تقنيّات البناء في فترة الحكم المملوكي. وقد سمح هذا الاكتشاف للعلماء بإجراء مقاربات ومقارنات بين هذه البيوت وتلك المستعملة في بعلبك في محاولة لتحديد الاختلاف في أساليب البناء والتزيين بين الحقب التاريخية المختلفة، وتحديد العادات التي لا تزال متّبعة بعد أكثر من 600 سنة.
وتؤكد مديرة البعثة أنه «سوف يجري تقديم جميع نتائج الحفريات والدراسات إلى مديرية الآثار وسيعمل الفريق الألماني بشكل مكثّف على إدراج مجمل المعالم المكتشفة ضمن إطار الممرّات السياحية التي ينظّمها مشروع الإرث الثقافي المموّل بقرض من البنك الدولي».
أما المحزن بالنسبة إلى لبنان، فهو النقص الحاد في الطلاب اللبنانيين المشاركين في هذه البعثة الضخمة. ففيما يتقاسم 30 طالباً ألمانياً إجراء الدّراسات عن بعلبك والعمل في الموقع، يشارك طالبان لبنانيّان فقط في العمل الميداني. تبرّر فان إس نقص المشاركة اللبنانية قائلة «إن عدد الطلاب الذين أبدوا استعداداً حقيقياً للمشاركة في الحفريات بشكل جدي كان قليلاً جداً. فهم يأتون ويريدون العمل أسبوعاً واحداً فقط مثلاً، وهذا ما لا تقبل به البعثة، فالشرط الأساسي هو أن يشاركونا العمل لمدة 3 أسابيع على الأقل، وخصوصاً أن هنالك من القطع المكتشفة ما يكفي لإعداد أكثر من أطروحة، يتهافت تلاميذ الدراسات العليا في الجامعات الألمانية على الفوز بها. ونحن نودّ أن نساعد الطلاب اللبنانيين إذا اختاروا إتمام هذه الدراسات، شرط أن يكونوا جديّين، وعلميين ودؤوبين في عملهم».
لكنْ ثمّة سؤال مهم يطرح نفسه إزاء هذا الواقع الذي ينطبق على جميع البعثات الأجنبية العاملة في لبنان: لماذا لا تعمد الدولة إلى «إجبار» كل بعثة أجنبية على إشراك عناصر لبنانيين تتكفل تأمين تعليمهم العالي كأحد الشروط للسماح لها بالتنقيب في لبنان؟.