هشام نفاع *كأنما كلّ شيء جاهز لكارثة مقبلة: السلاح والعتاد والتخطيط، والأهمّ، النيّات. تحت كل هذا، أرضيّة صلبة مؤلفة من المواقف المتعنّتة التي تضع جميع المصالح الضيقة فوق المصلحة الوطنية. ضباط من أجهزة أمن فلسطينية يتحدثون عن صدام مسلح محتمل مع «حماس» في الضفة، مطلع العام الجديد. صحيفة إسرائيلية تنسب إلى أحدهم طلبه مساعدة الجيش الإسرائيلي في هذه المهمة، معتبراً أن الحركة الإسلامية «عدو مشترك». أما تلك الأصوات المتشدّدة في «حماس»، فتصر على إسماع نشاز الأسطوانات البالية نفسها. «كلنا إلى الثورة» و«حيّ على الجهاد» هما نداءان عديما المعنى في الواقع الفلسطيني الرسمي الحالي، لأن نارهما موجّهة الى الداخل.
في الضفة، يسارع رئيس طاقم المفاوضات أحمد قريع إلى توضيح موقفه لتسيبي ليفني. فبعد تصريحه بأن الفلسطينيين سيسلكون طريق المقاومة مرة أخرى إذا فشلت المفاوضات، سارع إلى إبلاغ ليفني بأنه يقصد استخدام «المقاومة» التي لا تشتمل على أعمال عنف بل عبر الوسائل السياسية والدبلوماسية.
وفي غزة، تتحرك أجهزة «حماس» للبحث عن «مطلوبين» لأنهم يهدّدون التهدئة مع الاحتلال. تعبير «المطلوب» (كتعبير «الإرهابي») الذي أنتجه الاحتلال لوصف المناضلين الفلسطينيين، تحوّل إلى عملة صالحة للتداول الفلسطيني الداخلي. بقليل من التمعّن، دون كثير من العناء، يقف المرء أمام سلطتين تسعيان بكلّ قوة للحفاظ على نفوذ كلّ منهما، حتى لو اقتضى الأمر مراضاة الاحتلال بهذا القدر أو ذاك.
أما في بريطانيا، فإن عشرات الأكاديميين الفلسطينيين يزفّون إلى الجماهير العريضة بُشرى أن المخرج الوحيد هو إقامة الدولة الواحدة في يوم ما، بل في قرن ما. حالياً يمكن الجماهير التعايش مع مشاكل ثانوية عابرة وتفصيلية، كجدار الفصل والمستوطنات والثكن العسكرية الاحتلالية ومئات الحواجز التي تمزّق معاً الضفة، وتجعل مسيرة النصف ساعة للفرد الفلسطيني بين قريتين تتطلب يوماً كاملاً من السفر الذي تقطعه جميع صنوف المعاناة على نقاط العساكر. فهذه الهموم اليومية الحقيقية، التي تمثّل الترجمة المباشرة الأدقّ والأحدّ لفعل الاحتلال، من الصعب أن تخترق الباب العالي لقاعات التحليل «الاستراتيجي».
حالياً، السؤال المقلق، بل المخيف، يدور حول الاتجاه الذي ستتفاعل فيه الأمور خلال الشهور القليلة المقبلة وصولاً إلى التاريخ الخطير: 9 كانون الثاني 2009، وهو موعد انتهاء ولاية رئيس السلطة الفلسطينية.
للوهلة الأولى نحن أمام سؤال دستوري يتطلب حسماً بالوسائل اللائقة، السياسية والقانونية. لكن وسط حالة الانقسام البشعة، يختار الخصوم / الأشقاء مدّ الأنظار نحو وسائل حسم من نوع آخر: التهديد بمزيد من حرب الأشقاء ومن سفك الدماء.
مباريات كلامية ساخنة تتفنّن في استخلاص أكثر النعوت خطورة للخصم السياسي. لم يعد التخوين خطاً أحمر، بل بات أولى الركلات في اللعبة. تُوسِّع من عدسة الرؤية فيبتلعها السؤال: كيف ستظل قضية فلسطين مرفوعة ما دام من يحملونها هم خونة الواحد بنظر الآخر؟ توسّع العدسة حتى أقصى مداها فترى غيوماً جديدة / قديمة تتلبّد منذرة بشتاء قانٍ طويل.
من جهة أخرى، لشدّة ما عملت مطاحن الكلام من ساعات إضافية، فقدت مفاهيم الحوار والوفاق والوحدة كثيراً من معانيها. صار الحوار مجرّد لقاء جديد لا يعوَّل عليه، يُعقد في هذه العاصمة العربية أو تلك (التي لا يعوّل عليها أحد أيضاً)، لمتابعة الاتهامات والإدانات المتبادلة. أما الوفاق والوحدة، أحدّ الأسلحة في وجه أي احتلال أجنبي، فقد تحوّلا إلى أدوات مساومة لخدمة مصالح فئوية منخفضة القيمة والقامة.
إنها صورة حقيقية قاتمة لن ينفع فيها أي تجميل، ولو لضرورات سامية كالحفاظ على ما بقي من معنويات قليلة. فهل سيسجّل التاريخ أن إحدى أبلغ الضربات التي تعرّضت لها قضية فلسطين جاءت من أيدٍ فلسطينية؟
ووسط جميع هذه التفاصيل الساخنة، هناك سطور منسيّة في بعض التقارير التي لا تملك ما يليق من مقوّمات تجعلها تحتلّ العناوين. لأنها تتعلّق بالجماهير لا بالزعامات. فبموجب تقرير أخير للجهاز الفلسطيني المركزي للإحصاء، سجّلت أسعار السلع الأساسية للمستهلك الفلسطيني ارتفاعاً مقداره 10.10 في المئة مقارنة بشهر آب من العام الماضي. ويشمل هذا أسعار الأقمشة والملابس والأحذية والمواد الغذائية والمشروبات المرطبة والتبغ والأثاث والمفروشات والسلع المنزلية وخدمات التعليم. وكل هذا وسط حالة اجتماعية اقتصادية قاتلة، تصل فيها نسب الفقر والبطالة في الضفة الغربية إلى نحو 65%، وتتجاوزها أكثر في غزة.
الحقيقة المؤلمة ساطعة: الجماهير تواجه قمع الاحتلال اليومي، وتكابد في كل صباح معاناة توفير حاجيّات الحياة الأساسية للحفاظ على الحد الأدنى من الوجود والكرامة. وإذا كانت الانتفاضة الثانية قد أخرجت الجماهير من دائرة الفعل النضالي، بعدما احتكرتها الفصائل وسلمتها لحمَلة السلاح من كوادرها، فإن نفق الانقسام الفصائلي، المسلّح والدموي في عدد من فصوله، قد زاد ووسّع من المسافة بين الجماهير وبين قدرتها على تفعيل طاقتها الهائلة المجرَّبة لدحر احتلال عسكري كولونيالي تجاوز 4 عقود من الزمن. ويبدو أنه وسط الحالة العبثية التي «تعدّدت السلطات فيها والاحتلال واحد»، مثلما تتعدّد أشكال الموت الواحد، لم يعد من مخرج سوى تفكيك جميع هذه السلطات الوهميّة في جوهرها، والعودة إلى الجماهير، صاحبة الحق الأول والشأن الأول. أما تواصُل اجترار العداوات وتحصين الزعامات الفئوية، فهو أمر يبتعد يومياً، وباطّراد، عن معنى القضية العادلة المسمّاة قضية فلسطين. لأنها قضية أهمّ وأرقى وأعدل من جميع سادة التحارُب في بقاع الأفق الضيّق على مصالح ضيقة.
هل هذا ردّ فعل يائس؟ لا. لأنه آخر ما يريده جهاز الاحتلال الإسرائيلي، الذي يجني الفوائد حالياً من استمرار «تنظيم» الحالة الفلسطينية داخل مربعات فوضى قياداتها الرسمية. وهو «تنظيم الفوضى» نفسه المشتقّ مما يسمّى باللغة الأميركية «الفوضى الخلّاقة»، أي الفيتو الأميركي العنيف ضد أيّة وحدة وطنية ممكنة، ليس في فلسطين وحدها، بل في العراق ولبنان أيضاً، وفي كل موقع قد تمثّل الوحدة الوطنيّة فيه خطراً على المصالح الإمبريالية الهمجيّة ومجروراتها.
* كاتب فلسطيني