سعد الله مزرعاني *لأسباب كان معظمها سياسياً، والأساسي فيها ضم بلدان المحور السوفياتي السابق إلى حلف الأطلسي وتوسيعه إلى حدود روسيا المباشرة (الشبكة الصاروخية)، بدل حل هذا الحلف، طالبت روسيا بنظام دولي متعدد الأقطاب. لم يكن ذلك يقتصر على الأمن والسياسة، بل على الاقتصاد أيضاً، وخصوصاً بعد غزو العراق ومحاولة السيطرة على احتياطيّه النفطي الهائل. والآن، وعلى نطاق واسع، تتجدّد المطالبة. ويذهب قادة أوروبا الكبار إلى حد تحميل المسؤولية لواشنطن، بسبب نهجها المتفرد، عن تدهور الأوضاع المالية في أميركا والعالم إلى مستوى الكارثة المفتوحة. فهؤلاء أيضاً، طالبوا بتعددية اقتصادية، وكذلك فعل رئيس صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، وكلاهما شبه موظفين لدى الإدارة الأميركية.
يُقدَّر حجم الخسائر التي ستنجم عن الأزمة الائتمانية الراهنة بآلاف المليارات. وهي أخطر وأوسع وأعمق من أن تستوعبها خطة الإنقاذ المالي الأميركي البالغة 700 مليار دولار. السبب الأساسي أن الضامن نفسه لم يعد موضع ثقة. وهو بحد ذاته محتاج أيضاً إلى ضمانات يبحث عنها أو يفرضها على دول ومؤسسات مالية وصناديق ائتمانية عبر العالم. ما يحدث للنظام الأميركي في حقلي السياسة الخارجية والمالية، هو أكثر من أزمة كبيرة. فما هو بالضبط؟ أو ما هو تقريباً إذا تعذر الآن التحديد الكامل؟
بدءاً، عندما نقول النظام الأميركي، فإننا نقول النظام الرأسمالي. وعندما نقول النظام الرأسمالي الأميركي، فإننا نقول النظام الرأسمالي العالمي. وعندما نقول النظام الرأسمالي العالمي، فإننا نقول (بعد انهيار الاتحاد السوفياتي) النظام الاقتصادي العالمي عموماً. نعم، الولايات المتحدة لا تعاني وحدها من نتائج أزمتها المالية والاقتصادية الضخمة الراهنة. السبب هو كون الاقتصاد الأميركي القوة ذات الحجم الأكبر في الاقتصاد العالمي. وبحكم كونه أيضاً القوة المهيمنة في هذا الاقتصاد، تغدو أزمة الاقتصاد الأميركي أزمة عالمية: إنها تتحول إلى أزمة في النظام الرأسمالي نفسه.
يستطيع البعض القول إنّها أزمة كبيرة، لكنها قابلة للسيطرة.
يستشهد هؤلاء بأزمات مماثلة حصل أخطرها عام 1929، وما رافقها من اختناق وكساد وانهيار بنى ومؤسسات. ويستطيع آخرون القول إنّ المنافسة معدومة، وإن النظام الاشتراكي في صيغته السوفياتية قد انهار. أما الصيغة الصينية، فنصف رأسمالية على الأقل، وتزداد نسبة وزن «اقتصاد السوق» الرأسمالي فيها. وبغياب المنافسة والمستفيدين المباشرين من الأزمة، فلا خوف على النظام الرأسمالي عموماً. هذا صحيح. لكن الصحيح أيضاً أنها أزمة كبيرة وشاملة وممتدة إلى العالم بأسره. ولأنها كذلك، ولأنها تتكرر دورياً تقريباً، فقد تتطور إلى ما هو أكثر من أزمة استثنائية في النظام الرأسمالي.
وكان يمكن لهذه الأزمة أن تتعزز وتتحول نوعياً، من خلال المنافسة والصراع وحضور البديل، نهجاً وممارسة وقوى (عنينا البديل الاشتراكي). لكنها تبقى أزمة كبيرة وعنيفة وخطيرة، حتى في غياب البديل، أو في ظروف ضعفه وارتباكه وأزماته وأزمات القوى التي حملت لواءه.
وأحد أبرز مظاهر الأزمة ودلائلها، هو اضطرار حماة النظام الرأسمالي إلى اللجوء مجدداً إلى القطاع العام من أجل إنقاذ القطاع الخاص! وهذا التدبير هو أكثر من «كينزية» اقتصادية أملتها أزمة مشابهة مرّت بها الولايات المتحدة قبل ثمانية عقود. إنها خطوة مذعورة وغير واثقة وغير موثوقة، مما يقود إلى القول إنّ التدابير الكفيلة بوقف التدهور وبإعادة السيطرة على مجريات الأزمة لم تتوضح معالمها الأساسية بعد. كانت الأزمة الهائلة التي نجمت عن انهيار النظام الاشتراكي ذي النسخة السوفياتية قد دفعت إلى سلسلة استنتاجات، كما ذكرنا، من مؤرّخين ومفكرين بورجوازيين كبار. فقد عنون فرانسيس فوكوياما كتابه الشهير «نهاية التاريخ والإنسان الأخير». قرّر يومها أن «الديموقراطية الليبرالية قد تمثّل نقطة النهاية في التطور الإيديولوجي للإنسانية، والصورة النهائية لنظام الحكم البشري، وبالتالي فهي تمثّل نهاية التاريخ». ويضيف، «كذلك فإن المبادئ الليبرالية في الاقتصاد (أي السوق الحرة) قد انتشرت ونجحت في خلق مستويات من الرخاء المادي لم نعهدها من قبل». وبالاستناد إلى هذا المنطق أو ما شابهه، قرر مفكِّر أميركي آخر، هو صموئيل هانتغتون، أن صراع الحضارات هو ما يوجه العلاقات، ويسبب الصراعات، ويقرر بالتالي وجهة الأحداث وتطورها، لا الصراع الطبقي، أو أي نوع آخر من النزاعات.
كان هذان الاستنتاجان المبكران (بعد الانهيار السوفياتي) خطيرين ولا شك. لكن الأخطر كان ما بني عليهما، في السياسة والاقتصاد، من معادلات ومواقف وتوجهات وحروب وغزو وتفرّد وهيمنة!
لقد اندفع كبار النظام الرأسمالي الأميركي وعتاته إلى مستوى من «البطر» لا سابق له من حيث السعي لأمركة العالم وعسكرته وإقامة نظام قطبي وحيد لا شريك له ولا بديل ولا منافس ولا معترض. أما الوسائل، فالقوة والغزو والاستخفاف بالقيم والمصالح والمؤسسات والحضارات الجديدة أو القديمة والعريقة.
وفي مجرى ذلك، أطلقت آليات السوق الرأسمالي دون أي حسيب أو رقيب، أو أي اعتبار خارج اعتبار تعظيم الربح وزيادة النهب والهيمنة والتحكم. واندفع في هذا السياق رأس المال المالي لينشط دون رقابة، وبالانقطاع عن واقع الإنتاج الحقيقي، في مضاربات أسطورية خلقت تباعاً فجوات خطيرة تطورت إلى مستوى العاصفة التي نعيش اليوم.
وفي هذا المناخ المسعور، أقدمت الإدارة الأميركية الحالية على خفض الضرائب على الشركات الكبرى، وواصلت زيادة إنفاقها العسكري الذي بلغ الكارثة مع إطالة أمد احتلال العراق وأفغانستان، واضطرار إدارة بوش إلى دفع الغرم الذي لم يكن متوقعاً، دون الحصول على الغنم الذي كان يفترض أنه مضمون!
كان هذا بعضاً من مظاهر الأزمة المالية. أما الأزمة السياسية والأخلاقية فليست أقل حدّة. إنها أزمة الاحتلال والغزو العسكري، بعد الاحتلال والغزو المالي! وها هم قادة عسكريون كبار، ومنهم بريطانيون، يعترفون بالعجز عن السيطرة والانتصار في أفغانستان. يحدث ذلك بعد تعثّر أكبر جيش في العالم في العراق، وبعد هزيمة الابن المدلل و«المعجزة» للقوى الإمبريالية الاستعمارية، الجيش الإسرائيلي في لبنان. من نافل القول، عندما يتعلق الأمر بتحديد المسؤوليات، أن يجري الحديث عن سوء إدارة وجشع ورعونة وإهمال التوازن الضروري ما بين الإنتاج والإنفاق، وما بين الاقتصاد الحقيقي و«الاقتصاد المالي» الوهمي، وما بين المضاربة والتجارة.
هذا إلى جموح التفرّد والهيمنة والرواتب العالية والاستثمارات المغامرة أو غير المجدية، وما سوى ذلك.
لكن ذلك لا يكفي. ولا بد في هذا الصدد من مجاراة (على الأقل) الاقتصاديين الرأسماليين المتنوّرين، حين يعودون دائماً إلى كارل ماركس لتفسير الكثير من الآليات والظواهر المنبثقة عن النظام الرأسمالي والمرافقة لتحقّق آليات عمله وتطوّره. هؤلاء الاقتصاديون لا يتفقون مع استنتاجات ماركس بشأن ضرورة استبدال النظام الرأسمالي بنظام اشتراكي يلغي الاستغلال ويحوّل الإنتاج إلى شراكة مجتمعية (ليس بالضرورة على النمط الذي كرّسته التجربة السوفياتية والمنهارة). ما بين استنتاجات ماركس واستنتاجات الاقتصاديين الذين يكتفون من ماركس «بتفسير العالم» ويرفضون تغييره، تقع مساحة مهمة، ستبقى ملعباً حافلاً لقوى متنوعة ومتناقضة، وحقلاً لتفسيرات كان أدناها حتى الآن أن العالم الرأسمالي أيضاً لم يعد، اقتصادياً وسياسياً، يقبل بالأحادية الأميركية أو يثق بها.
* كاتب وسياسي لبناني