أنسي الحاجتعجيز التقليد

المُقْدِم على حريّة أدبيّة (أو فنيّة إلخ...) جديدة، حبّذا لو يُعجز عملُهُ المقلّدين. هذه لهجة غريبة عن حديث الحريّة، وعن حديث التجديد عموماً، لكن الأمنية هي أن ينضح الأثر الجديد بوصيّة تعلوه وتقول: «على الداخل هنا أن ينسى كلّ أملٍ بالتقليد».
لا يمكن وَقْف التقليد، ولكن يمكن وقف الخلط بين الرُّتَب. الفنون تراتبيّة، وليتَ جميع أساليب الحياة كانت (ظلّت؟) تراتبيّة. لا يباح لمَن يستبيح بل لمَن يلعب حوله لَهَب الغزو. وفي ما بعد، عندما يأتي أهل الفَرْز، إذا هم نسوا هذه البديهيّات، دخل الحابل في النابل، كما هو العالم منذ الانحطاطات. قليلٌ هو إرهابُ الخَلْق وكثيرٌ إرهاب الاغتصاب. قليلٌ جدّاً إرهاب التغيير الذي لو لم يحصل لاختنق التاريخ، وكثيرٌ إرهاب السطو. منذ غلطة إساءة تقدير شعر بودلير ثم رمبو على حياتهما (ولا سيّما الأول) ارتعدت فرائصُ الأساتذةِ والنقّاد وصَدَعوا لكل الموجات مخافةَ وَصْمهم بهضم حقّ أحدٍ قد يتبيّن لاحقاً أنّه عبقري. وحين يصاب الأدب بوعكة في فرنسا يصاب في العالم بأسره. وهكذا كان. لم تعد الرصانة والعلم ولا الثقافة والحسّ ما يُحكّم في التقييم بل التلفزيون وصفحات الجرائد، على خَلفيّة المصالح التجاريّة والاجتماعيّة والعلاقات الخاصة، والهدف معظم الأحيان، في الغرب خاصة، الترويج للسلع، كتباً كانت أو لوحات أو أفلاماً أو ألحاناً. انصاعَ فانوس العقل وبوصلة الروح لوحش الاستهلاك في أمبراطوريّات السوق.
نعود إلى حلم تعجيز التقليد، وهو ليس مَحْض حلم، فبعضهم لا يُقلَّد، وإلّا فتَحتَ طائلة الفشل. أمّا الموضة فتنتقم ممّا لا تستطيع ابتذاله بوضعه على رفّ النخبة، وهي تقصد الغبار. وهو غبار خطير، مُعْدٍ، لأن الجميع، بمَن فيهم الأشدّ تحصُّناً، معرَّض لإغراء الانضمام إلى المواكبة، فضلاً عن أنّ المعاصَرَة إرهابٌ هي أيضاً.
تُفْلِت من الدوّامة تلك المعادلة الشهيرة: اجتماع اللحظة المعاصرة إلى الفلذة الأبديّة في بوتقة واحدة. صيغة لا تُفْتَعَل ولا تُتَعَلَّم، وقد تُحْتذى فكرتُها، وتظلّ العبرة في النتيجة.
فوق مختلف المعادلات شيءٌ آخر يستحيل تقليده (أي ترويجه مُبَشََعاً) هو جهل صاحبه لما هو.

خَدَر

الغروب درجات، بينها طريقة الشمعة في الانطفاء.
إلى أن تتوافر الديمومة على قَدْر الرغبة، يظلّ المشتهى، في وجه الألم، أن يُعار الإنسان مصير الشمعة. نهاية وديعة إن لم تطاوعه نهاية صاعقة، تلك التي لا يأخذ علماً بها.
زيارة يغادر بعدها الضيفُ ومضيفوه نيام.

«رصاص»

حالاتٌ عديدة من ثقل الدم أساسها الهَرْقَة. في السينما (والمسرح) نيّة الصَّرْع، الافتعال. الكتابة حافلة بطعجات نُسمّيها الكليشيهات، يضاف إليها «إبداعات» أثقل منها، أبرز عللها نرجسيّة مَنْ لا مرآة أمامهم.
يُغنّج البعض أنفسهم كأن الآخرين لا يمكنهم أن يتخيّلوهم عراة. أحدهم «يُعلّم» مفترضاً أن القرّاء والسامعين بهائم، مسطرته بين يديه ولغته كالساطور، يتبرّع بدروسه كما يلبطكَ سواه بجزمته، لا يجفّ له ريق، ولا يقول شيئاً. وله مقلّدون. ولا يأخذون نَفَساً، ولا يعبأون بأنهم مكروهون، وبأنّك تشتهي أن تراهم ينزفون من أنوفهم.
الأعوام الماضية ترك لنا التلفزيون، لشدّة احتلاله، انطباعاً بأن الثقلاء موجودون فيه دون سواه، وهذا ظلم للتلفزيون، أوّلاً لأن فيه ظرفاء وأكفياء، وثانياً لأنّ الصحافة المكتوبة تَعجّ بالثقلاء وبغير الأكفياء جنباً إلى جنب مع الذين لا بأس بهم. والحقيقة أن ثقل الدم عجينة وطنيّة قوميّة شرق أوسطيّة وأينماكانيّة. هذا هو الإنسان الذي به سُررت.
في الأدب نادرون هم الذين ليس في كتاباتهم تغميزات التظارف والتصابي أو نتعات الزّجل وتَصنّع الإدهاش. ليس في الرسم والموسيقى تعبير كالحكي والكتابة، ولكن الغلاظة هنا أيضاً غزيرة، ومهما تكن اللغة غير مباشرة فلن يخفى القمر.
ولا أحد فوق رأسه خيمة. حين أعيد قراءة قديمي (وجديدي يصبح فوراً قديمي) يصيبني ارتباك ويعتريني خجل عارم ودهشة صادقة: كيف لم يشتمني أحد؟ كيف طاوعتني نفسي على ارتكاب هذا التعرّي المَرَضي؟ كيف لم يُلاحَظ هنا سخفي وهنا نفاقي؟ لا أقولها تغطية. عندما يكون المرء قويّاً لا ينظر إلى نفسه لأن انهماكه بذاته ينسيه أن الآخرين قد ينظرون إليه بعين النقد. عندما يضعف يخيّل إليه أن الدّنيا كلّها باتت مرايا.
كان سعيد فريحة، منشئ «الصيّاد»، يتحسّس من الثقلاء، وحين يصادف بعضهم في السهرات يتبادل نظرات الغضب مع خلّانه، وبعد أن يحاول عبثاً ضبط أعصابه ينفجر صائحاً «رصاص!»، وهي علامة متعارف عليها، وتعني منزلةً ما بين الاحتياط من العدوان والاستعداد للانسحاب ما لم ينصرف الثقيل أو الثقلاء أوّلاً.
ذلك وقتٌ كان فيه صاحب «الجعبة» يظنّ أن الرصاص هو الأثقل عياراً. رحم الله الجميع.
هل يعرف الثقيل أنه ثقيل؟ الشفقة تقضي بأنْ لا يعرف. ثم، مَن يُصنّف مَن؟ قد أعتبرُ فلاناً ثقيلاً وأكون أنا أثقل منه. فلنسأل الأطفال، على شرط أن لا يكونوا هم أيضاً ثقلاء. فضلاً عن أن حَدْس الطفل يتوقّف غالباً عند أبويه. مَن يصنّف مَن؟ يتعذّر الاحتكام إلى مرجع واحد، فكلّ منّا ينطوي على ثقيل ينتظر مَن يوقظه.
لا مفرّ من القسوة. ولا بأس ببعض التجنّي، فحتّى الظرفاء، وخاصة في لبنان والهلال الخصيب، معرَّضون للشطط إنْ أرخيتَ لهم الحَبْل. الظريف الدائم جوهرة فوق الجواهر، وإذا صادفْتَه ابقِ عينكَ مفتوحة: لا يُسْتَبْعَد في وقتٍ ما أن يَظْهر عليه سروره بنفسه...


الوادي

فرسانُ الدروب الزرقاء وجدوا، بعد المطاردة ـــــ أعنفِ مطاردة ـــــ أَنَّ الوادي ينادي، ساحراً بصوتِهِ المكبوت أَشرسَ الأُسود، فنزَلوا عنده مستسلمين لارتخاءٍ يرفضونه عادةً. ناموا على رمالِ نهرٍ ما رأتْ عينٌ أرقَّ من أنوثته.
ولم يأتِ أحدٌ لذَبْحهم نياماً.
قَطَعَ سلامُ أحلامهم حَيْلَ الأعداء.
ولم يَسُودوا ولا تزعَّموا. ولم يَطْلَع منهم إمامٌ ولا نبيّ. مَحْضُ متجاوبين ونداء النزول.
إلى الأعماق.
إلى الذُّرى البيضاءْ لأعماقٍ زرقاءَ حمراءَ خضراءَ أَغنى من السماء.


الأيدي

«أَحبّوا أيديكم لتصبحَ ذاتَ يومٍ جميلة.
■ ■ ■
كما أن الجناحين هما الطير، كذلك اليدان هما الإنسان
أيدي الأشرار أراضٍ قاحلة.
■ ■ ■
يدا العذراء تحتفظان بقبلة القمر.
■ ■ ■
الأيدي هي أولادكم واليدان شقيقتان توأمان
والأنامل العشر أولادهما المباركون بالتساوي.
اسهروا جيّداً على ألعاب أيديكم
وعلى أقلّ خلافاتها شأناً
وعلى جميع التفاصيل اللانهائيّة لسلوكها.
■ ■ ■
أضعف الأصابع وأنعمها هي الأكثر جمالاً
إنها الخنْصَر التي عرفتْ أن تظلّ طفلة.
■ ■ ■
حتّى يُغدق عليكِ شهرُ الثمار عطاياه
انفتحي أيّتها الأيدي
انفتحي دائماً على عشّ الغفران.
■ ■ ■
... وجميعكم تسألون: «أين تراه يكون الدواء
فَعِلَلُنا شديدة الوطأةِ يا ربّ؟».
وليس هو إلّا في أيديكم، وليس هو إلّا أيديكم ذاتها».
جرمان نوفو
(شاعر فرنسي ـــــ 1851، 1920)