حلّت ذكرى «عودة» أبناء البارد الأولى. لكنّها لم تكن مناسبة جميلة. تسكن الهواجس بال أكثر من 3 آلاف عائلة تحاول ترميم حياتها من «اللحم الحي». هذا دون الحديث عن 3 آلاف عائلة من المخيم القديم، لا تعرف حال أو كيف ستعيد إعمار بيوتها؟
راجانا حمية
يعجّ حاجز التفتيش العسكري عند المدخل الشمالي لمخيّم «نهر البارد» بالمنتظرين. كان الوقت يميل إلى الظهيرة، وشمس ذلك اليوم، تكاد تحرق بلهيبها الواقفين في الصفّ الطويل، وتغرقهم بالعرق. قمصان سوداء التصقت بظهور لابسيها. الجوّ هادئ بعض الشيء، رغم كثرة الإجراءات العسكريّة. يرتفع بكاء امرأة تقف بعيداً عند باب المدخل إلى جانب سيّارة إسعاف «الهلال الأحمر الفلسطيني». تحمل المرأة ترخيصاً بالدخول إلى منزلها المؤقت في «القطاع س»، أو ما تعارف الناس على تسميته هنا: «فيزا». قامت قيادة الجيش بتقسيم المكان إلى قطاعات فأعادت «تسمية» بعض شوارع المخيم. تصل المرأة إلى الحاجز، فتسارع المجنّدة لتفتيشها. تمرّر الشابّة آلة الكشف على جسد المرأة، قبل أن تسمح لها بالدخول إلى أرض مخيّمها. بقيت المرأة مكانها، رغم السماح لها بالدخول، فهي تنتظر الإسعاف الذي كان ينقل قريبها المتوفّى بلال محمود وهبي.
يمرّر الجندي آلة الكشف على جانبي الصندوق الخشبي الذي يحمل جسد الشاب المتوفّى في الإمارات العربية بحادث سير. فجأةً، ترنّ الآلة! يرتبك الجندي. لكنه لا يجد سبيلاً سوى فتح الصندوق للتأكّد مما بداخله! فتح التابوت كان أقوى من احتمال المرأة، فصرخت باكية «حتّى بالموت مغلّبين» تقصد كفلسطينين.
ربما كان هذا المشهد استثنائياً، لكنه لا شك، يختصر واقع أبناء «البارد» منذ العام الماضي. فمنذ ذلك الوقت أصبحوا بحاجة إلى ورقة يرخّص فيها «قائد منطقة الشمال (..) لفلان الفلاني بالدخول إلى بيته الذي يسكنه وعائلته في المخيّم الجديد»، حسب ما هو مكتوب في بعض التراخيص. من دون هذه الورقة، قد يبيت اللاجئ خارج منزله إلى أجل لم يسمَّ بعد.
بات المخيّم المدمّر منذ نهاية الحرب، فعلاً جزءين: القديم المغلق بشكل أمني محكم، حيث تجهل أكثر من ألفي عائلة مصير أملاكها، وجديد مقسّم إلى خمسة قطاعات، يستوعب إلى سكّانه، النازحين إليه. يفاجأ الداخل إلى المخيّم الجديد بحاله. فهنا، الكثير من الركام على جنبات الطرقات التي عادت ترابية، كما لو أنّها بداية إنشاء مخيّم، ما عزّز حركة «الموتوسيكلات» الموجودة بكثرة هنا.
أما الأبنية فقد انقسمت إلى: مدمّرة كليّاً، يعيش مالكوها في مخيّمات اللاجئين أو نزلاء في الكاراجات والمستودعات، أو في «الباراكسات» الحديد التي أنشأتها وكالة «الأونروا»، أو مدمّرة جزئياً، وهي حال غالبية مباني قطاعات المخيم الجديد الخمسة: أبنية مبقورة خرجت أحشاؤها كبعض الألبسة والمفروشات، وأبنية أخرى، صنّفتها شركة «خطيب وعلمي» التي كلّفتها الحكومة اللبنانيّة مسح الأبنية لمعرفة ما هو صالح للسكن، عقب انتهاء عمليّة نزع الألغام منذ ما يقارب ستّة أشهر.
لم تتأخر الشركة عن اختراع قاموسها: فالمثلث الأزرق إن صادفته على مبنى يعني أنه صالح للسكن. أما رسم المثلّث الذي يخرقه خط، فللإشارة إلى حاجة المنزل إلى الترميم، أما إن كان هناك خطّان، فمعنى ذلك أن البيت سيصار إلى جرفه. لكن، كيفما التفتّ في المخيّم، ستجد تلك الأبنية المستطيلة البيضاء، التي اصطلح الفلسطينيون على تسميتها «براكسات»، أي المنازل الجاهزة الصنع الشبيهة بـ«الكونتينر»، والتي يعيشون فيها «مؤقّتاً»، لكن لا يبدو الخروج منها وارداً الآن بسبب تأخر عملية إعادة الإعمار إلى حين الانتهاء من إعمار المخيم القديم. أما السبب الآخر لتأخّر إعادة إعمار المخيم الجديد، فهو عدم وجود رؤيا وآليّة واضحتين لكيفيّة إعادة الإعمار، ولا سيّما أنّ المخطّط التوجيهي، الذي تقدّمت به هيئة العمل الأهلي والدراسات لإعادة إعمار المخيّم تنحصر فقط في آليّة إعادة إعمار المخيم القديم.
ولا تلخص الإقامة بالبراكسات كل الوضع السكني المؤقت. يقول أمين سر اللجنة الشعبيّة في المخيّم د. لطفي الحاج أحمد إن الناس يسكنون إلى جانب البراكسات (300وحدة)، في كاراجات ومستودعات وسكن إسمنتي مؤقّت (غير مبنيّ على أساسات) في العقار 23 (جنوب غرب المخيّم)، ويضمّ 150 وحدة سكنيّة تقريباً، تُضاف إليها 174 وحدة في «بلوك 774» جنوب المخيّم.
هنا، في البيوت المؤقّتة، تعيش حوالى 3 آلاف عائلة دُمّرت بيوتها كلّياً، فيما باقي العائلات عادت إلى بيوتها المرمّمة على نفقتها، بمساعدة بعض الجمعيات، التي قدمت «بعض النوافذ والأبواب»، كما يشير الحاج أحمد. ويتابع «الكلفة القصوى لم تتعدّ 1800 دولار، وحتى هذه المساعدات لم تساوِ 10% من حجم الكارثة». أمّا تعويضات الحكومة اللبنانية؟ فإلى الآن، لم تحدّد قيمتها: ولربّما اكتفت بالمليوني ليرة التي قدّمتها إلى الأهالي في نزوحهم، والألف دولار أميركي الذي قدّمته السعوديّة!
مشهد المخيّم الكئيب، يُصبح أكثر كآبة لحظة الدخول في تفاصيل حياة الناس المتروكين في «مؤقّتين»، الأول عمره عام، أما الثاني، فيعود إلى النكبة. وهل هناك أكثر كآبة من «منازل» من الحديد منتظمة دون أيّ روح بصفوف طويلة متقابلة، يفصل بينها ممرّ ضيّق معتم، حتّى في وضح النهار؟ الجواب نعم. ففي داخل «الباراكسات» غرف لا يتعدى طولها أكثر من خمسة أمتار مربّعة، مقابل ثلاثة أمتار عرضاً، يعيش فيها خمسة أشخاص! يضاف إليها في آخرها متر مربّع واحد هو الحمام، وإلى جانبه نصف متر للمطبخ. كلّها متشابهة. تمرّ بينها كأنّك تسير داخلها، حيث النوافذ مكشوفة على الخارج، بإمكانك رؤية سكانها من خارجها. في إحدى تلك الغرف، تسكن لطيفة عوض وعائلتها المؤلّفة من خمسة أشخاص. كانت العجوز تهزّ سرير حفيدتها الذي ابتكرته من «حبل الغسيل الذي تبرّعت به إحدى الجمعيّات الخيريّة وغطاء الفراش». كانت الجدّة وحفيدتها ملاك وهبي وحدهما. فيما الجميع، خارج المدينة! تُفاجأ العجوز بالزائرين الغرباء، فلا تجد ترحيباً سوى الشكوى، ولكن ببلاغة مطبخية: «هنا تجدون كل أنواع البؤس: شقف، أو عالخشنة أو عالناعمة». أمّا هي،؟ «عَ الناعمة» تقول. لا تجد العجوز ما تقوله، تسأل زوّارها «لأيّ جمعيّة تسجّلون المعلومات؟». تُصدم المرأة لحظة تعرف أنّنا لسنا جمعية.
جارتها آمنة أحمد كانت أكثر سعادة بشكاية همها للإعلام «ما عنا شي» قالت. ولأنّهم خمسة أفراد، يمنع عليهم «قانون الأونروا» تملّك أكثر من غرفة، لذلك عمد زوج آمنة إلى إنشاء خيمة من الخشب والزينكو لينام فيها، ولتوضيب «الفرش في الصباح، من أجل استقبال الضيوف والجيران»، كما تقول. أمّا عن التغذية بالتيّار الكهربائي والمياه، فمجرّد الحديث عنهما هو الترف بحدّ ذاته. ففي البراكسات يحظى الناس بالتيّار لساعتين في النهار و5 في الليل، والساعات الـ17 الباقية «على الله». وبالنسبة إلى المياه، فهي «تأتي» مرتّين: في الصباح، وفي المساء، تتعاون في تأمينها «الأونروا» ومحطّة «جنين» الوحيدة في المخيّم، إضافةً إلى بعض الجمعيات الأخرى التي تزوّد قطاعات المخيم الباقية.


ارتفاع نسبة الولادة

ثمّة ما هو موحش في «البارد» بالنسبة إلى نساء «المدينة الحديديّة». فحسب تقرير أصدرته «الأونروا أخيراً، نسبة الزواج والحمل بالتالي، زادت منذ التهجير»، إذ سُجلت «أعلى نسبة زواج وحمل» حسب اللجنة الشعبية في المخيم. هذا ما تؤكده آمنة أيوب أحمد، التي تقول إن الزواج أصبح أسهل بكثير هذه الأيام، وتشرح الآليّة «الآن، مع هذه الأزمة، عندما يبلغ الشاب 18 عاماً يستطيع الزواج بسهولة فائقة». وتردّ تحليلها إلى سببين «الأوّل أنّ الشاب إذا ما فكّر في الزواج، يستطيع الحصول على إيجار مسكن من الأونروا، وثانياً أنّ أهل الفتاة ما عادوا يتطلّبون الكثير في ظل الأوضاع الصعبة، لا صالون ولا غرفة نوم، يكفيهم براكس فيه خزانة من سوق الأحد وأغطية وفرش، والله يسهّلها». لكن، المثير للاهتمام أنه مقابل تزايد هذه النسبة، فإن نسبة المصاهرة مع الجوار تراجعت بنسبة 90%، بحسب ما أكدت المحكمة الشرعية للجنة الشعبية. أما السبب، فهو إلى جانب ما يمكن إدراجه في خانة «الآثار النفسية» لما حدث في البارد، قصة التصاريح.