جو ريشافجر 13 تشرين الأول من عام 1990 لم يكن كغيره من الأيام. فعلى محور نهر الموت الذي كنت أخدم فيه متطوعاً اختيارياً في الجيش اللبناني منذ أكثر من ستة أشهر، سخنت الجبهة دون مبرر، حيث فتحت الميليشيات نيران أسلحتها المتوسطة والثقيلة نحو مواقعنا بغزارة من جهة منطقة الدورة. إلا أن أكثر ما أثار ريبتنا كان سماع أزيز طائرات حربية تعقبها انفجارات مدوّية. كم كانت دهشتنا كبيرة عند سماعنا على أجهزة اللاسلكي صوت ميليشياويين يهلّل بعضهم لبعض متناقلين خبر غارات جوية سورية على بعبدا واليرزة، علمنا حينها أن العالم كله باعنا للسوري الذي يجتاحنا بجحافله وطائراته تحت مظلة جوية إسرائيلية ومباركة أميركية، وخيانة وعمالة داخلية من البعض وقصر نظر وتخلّف وأنانية بالحد الأدنى من البعض الآخر. بدا لنا جلياً أن الهجوم الأساسي على مواقع الجيش اللبناني يحصل في مناطق أخرى كضهر الوحش والدوار حيث الجحافل السورية، وأن ما تقوم به ميليشيات القوات المحلية في الدورة والأشرفية وكسروان لا يعدو كونه فتح اشتباكات إلهائية، حيث إنها أضعف من أن تتمكن من الاقتراب نحو مواقعنا قيد أُنملة، على رغم امتيازها بالفكر الإسخريوطي المُطعّم بمزايا الميكيافيلية والأساليب الستالينية والفاشية. فمن موقعي على سطح بناية الخطوط الجوية الفرنسية الاستراتيجي المطل على مواقع الميليشيات على أكثر من محور، لم يُرصَد أيّ تحرك للمشاة أو الآليات رغم كثافة القصف العشوائي. إنها فقط نيران حاقدة على الجيش والشرعية من جماعات اعتقدت أنها بعد سقوط قصر الشعب في بعبدا جراء الاجتياح السوري، ستعود لبسط سيطرتها ونفوذها على المنطقة الشرقية، فتعود حواجز الرعب والخطف والخوّات إلى سابق ازدهارها، وشريعة الغاب والتشليح والتشبيح والتسويح تحت شعار «أمن المجتمع المسيحي فوق كل اعتبار» و«أداء الواجب الوطني».
وسط هذه المعمعة صعد أحد سكان المبنى الذي نتمركز على سطحه، وكنّا قد اعتدنا على ملازمته لنا مثله مثل غيره من الأهالي الذين يؤيدوننا بأغلبيتهم الساحقة. كان مزيج من الحزن والغضب يرتسم على محيّاه: «حقناً للدماء، طلب دولة الرئيس عون تلقّي الأوامر من العماد لحود...»، قالها وأجهش بالبكاء.
لم نتمكن من إخفاء غضبنا، إننا مستعدون للقتال حتى الشهادة، قالها الرقيب براك، أما الجندي رزق فقد نفّس غضبه بإفراغ ذخيرة رشاش «الماغ» باتجاه مواقع القواتيين وهو مَن فقد شقيقه على أيديهم في وقت سابق. أما أنا فشعرت بدوار رهيب، واسترجعت صور أصدقاء ورفقاء كثر قدموا حياتهم فداءً لحلم تحقيق لبنانهم العظيم السيد الحر والمستقل.
أيُعقل أن يساوم الغرب المتبجّح بالديموقراطية وحقوق الدول والبشر على آخر معاقل الحرية في هذا الشرق؟ نعم فعلتها أميركا ومَن يدور في فلكها من وحوش الرأسمالية والإمبريالية وممالك الخضوع والخنوع. نعم فعلها سيد البيت الأبيض بقفّازه الأسود، ولكن... أيحق لنا لومه ونحن مَن سمع رنين الثلاثين من الفضّة في أزقّة مدننا وقرانا والتجار الفجّار في هياكلنا؟
أيحق لنا توجيه إصبع الاتهام لبلاد العم سام ومسامحة نواب 1972 الذين خانوا شعبهم في أحضان البحبوحة البترودولارية؟ أيحق لنا لوم فرنسا الأم الحنون متناسين مَن طعنوا القضية بأبخس الأسعار فقبلوا بالطائف دستوراً وحكومة الاحتلال شرعية وبالسوري وصيّاً؟ أيحق لنا لوم الفاتيكان لتخلّيه عن بلد الرسالة مغمضين أعيننا عمّن اعتبر إتمام الاجتياح السوري كالحجر الذي انزاح عن صدره وهو مَن كان يجب أن يكون مؤتمناً على مجد لبنان؟
أيُعذَر مَن غطّى سياسياً وعسكرياً وثيقة الطائف وانضم إلى أولى حكومات عهد الوصاية بعدما طعن جيش الوطن كما لم ينجح فتح الإسلام، فقتل جماعياً ضباطاً وجنوداً على جدران عمشيت وحالات، ونهبوا سلاحاً معدّاً لمقاومة الاحتلال وسلّموه للمحتل نفسه، حتى أن سلاحهم الذي دفع المجتمع المسيحي ثمنه رغماً عنه فأُدير باتجاهه وصوّب إلى ممتلكاته ومن ثم شوهد على شاشات التلفزة العالمية يشارك في حروب يوغوسلافيا السابقة دون أن تُنزَع منه شارات الميليشيات اللبنانية وشعاراتها، فنجح هناك بما اعتاد على القيام به في لبنان، فتقسّمت يوغوسلافيا إلى دويلات، وحصلت المجازر وأعمال التطهير العرقي والديني، فاستحق هذا السلاح وسام الدلتا المطبوع عليه تقديراً لأعماله في لبنان كما في البلقان.
مرّت الساعات الأولى لهذا اليوم المشؤوم، وهدأت حدّة القصف السوري بعد إتمام استيلائه على المناطق الحرّة واجتراح ما اجترح في بلدات الحدث وبسوس وضهر الوحش. إلاّ أن راجمات الصواريخ الحاقدة المنصوبة في كسروان لم يُشفَ غليلها الحاقد، فاستمرت بقصف المتن وبعبدا حتى ساعات متقدمة من بعد الظهر، أي بعد أكثر من ثماني ساعات على بيان الرئيس ميشال عون، وأطلقوا رشقات النيران فرحاً لهزيمة الوطن ولتدنيس مواقع سيادة لبنان في القصر الرئاسي ووزارة الدفاع الوطني الذي سيتحوّل لسخرية القدر في وقت لاحق إلى زنزانة المُحتفِل القصير النظر.