سعد الله مزرعاني *والأمران معاً، أي تبريد الأجواء والحفاظ على الحدود الدنيا من سلمية الصراع، حاجة وطنية لا جدال فيها، مهما أعقب ذلك من تعثر أو نجاح للحوار الذي سيستأنف في الخامس من الشهر المقبل. لكن السؤال ما يزال يطرح: أي حوار؟ فثمة، في الواقع صيغتان مختلفتان له؛ الأولى هي الصيغة القائمة الآن. ومؤداها أن يستمر الحوار، ولا يصل لإلى تفاهمات فعلية، وأن تكون نتائجه، في أحسن الأحوال، تأمين عدم انقطاع الصلة، وعدم التصعيد، وضمان استمرار الهدنة الهشة الراهنة، في أحسن الأحوال.
ليس من الممكن، بالتأكيد، الركون إلى ما يوفره هذا الوضع من ضمانات. ومن المعروف أن ثمة عوامل تأزم ما زالت ناشطة في الوضع اللبناني. ولا يتقصر ذلك على الإعلام فحسب، بل يتعداه إلى الوضع الأمني. ويمثّل الشمال اللبناني عنوان صراع مكشوف ومفتوح. وهذا الصراع يشمل أيضاً، بالتفاعل، أو بالتداخل، الوضع الفلسطيني، حيث يتحرك مخيم «عين الحلوة» في جنوب لبنان على إيقاع غير بعيد مما يجري في الشمال. ويتصل كل ذلك اتصالاً وثيقاً باستهداف يتعدى الساحة اللبنانية إلى الساحة السورية من خلال السعي إلى إيقاظ نزاع قديم، أو استثارة فتنة واسعة ذات طابع مذهبي معروف، وخطير في الوقت نفسه.
ومن جهة ثانية، تتصاعد التهديدات والاستفزازات الصهيونية ضدّ لبنان عموماً، وضد الجنوب خصوصاً. ويحاول ضباط صهاينة كبار اعتماد لغة التهويل، حتى لو اضطرهم الأمر إلى التهديد بارتكاب المجازر والاستهانة بالرأي العام العالمي وبالمعاهدات الدولية (لقد فعلوا ذلك دائماً!). ويمثّل ذلك عامل تأزم مستمر، وقد يتصاعد، ارتباطاً بتنامي الأزمة الداخلية في إسرائيل، والسعي إلى تنفيسها عبر تصديرها إلى الخارج اللبناني على وجه التحديد.
إن الإشارة إلى هاتين المسألتين هي لتأكيد الحاجة إلى الحوار، وإلى أن يؤدي هذا الحوار إلى استمرار الهدنة في البلاد. لكن هل هذا هو أقصى الطموح؟ لا، وليس هذا هو المطلوب من أجل احتواء الأزمة اللبنانية، ومن أجل إنجاز ولو خطوة واحدة على طريق الحلول والمعالجات؟
يمكن للبعض أن يتذرع بقرب الانتخابات النيابية، حيث يعتقد أنها ستحسم الصراع وتوفر استقراراً ما في الحكم، وبالتالي في البلاد... والواقع أن الانتخابات ستكون مهمة في نتائجها وفي التوازنات التي ستفضي إلى تكريسها أو إلى تغييرها.
لكن ثمة ما هو مطلوب، قبل الانتخابات وسيبقى مطلوباً بعدها: إنه السعي إلى الذهاب أعمق فأعمق في التفتيش عن أسباب تمادي الأزمة اللبنانية وتفاقمها، ومن ثم استعصائها على الحلول والمعالجات. هذا ما يجب أن يكون مادة الحوار الأساسي، بالإضافة إلى قضايا كبرى مهمة كالاستراتيجية الدفاعية وسواها.
بل يمكن القول إنّ كل المسائل السياسية الخلافية الأساسية تصبح قابلة للمعالجة، إذا ما توافر أساس أولي مشترك لهذه المعالجة. ونزعم أن ذلك يجب أن يبدأ من تحديد السبب في الخلل القائم في نظام علاقاتنا. إنه الخلل الناجم عن «المسألة الطائفية»: «أي حالة تجلّي واقع التعدد الديني والطائفي في بنية النظام السياسي وآليات فعله وأدائه».
ولقد توقف اتفاق الطائف عند هذا الأمر. ونكرّر هنا أن دستورنا يتضمن بنوداً واضحة وحاسمة في ضرورة إلغاء الطائفية السياسية، واعتبار هذا الإلغاء «هدفاً وطنياً أساسياً يقتضي العمل على تحقيقه وفق خطة مرحلية» (مقدمة الدستور).
وتتيح لنا مواد لاحقة «اكتشاف» (!) آليات للمباشرة بتنفيذ هذه «الخطة المرحلية». إنها المادة 95 من الدستور (عدلت هذه المادة وأقرت بصيغتها الراهنة بموجب القانون الدستوري رقم 18 تاريخ 21/9/1990). فهذه المادة تنص على أنه يتوجب «على مجلس النواب المنتخب على أساس المناصفة بين المسلمين والمسيحيين اتخاذ الإجراءات الملائمة لتحقيق إلغاء الطائفية السياسية وفق خطة مرحلية، وتأليف هيئة وطنية برئاسة رئيس الجمهورية، تضم بالإضافة إلى رئيس مجلس النواب ورئيس مجلس الوزراء، شخصيات سياسية وفكرية واجتماعية».
نقع هنا، في الواقع، على نص ثمين، من حيث إلزامية الأخذ به باعتباره نصاً دستورياً صريحاً، ومن حيث ملموسية وصحة الصيغة التي يعتمدها. ويستطيع هذا النص أن يردم الهوة بين الصيغ القائمة القاصرة الراهنة، وبين الصيغة السليمة والمناسبة المرجوّة، فضلاً عن دستوريتها. ويكون المقترح من الناحية العملية، تحويل هيئة الحوار الوطني التي أقرها «اتفاق الدوحة»، وكانت قد تأسست في مطلع ربيع عام 2006، إلى ما يساوي «الهيئة الوطنية» لإلغاء الطائفية السياسية التي طالب الدستور مجلس النواب بإنشائها ابتداءً من عام 1992.
ويقتضي ذلك اتخاذ قرار رسمي في هذا الصدد: من جانب رئيس الجمهورية ومجلس النواب ومجلس الوزراء، باحترام الدستور، وبتحويل الهيئة الوطنية إلى هيئة دستورية لإلغاء الطائفية السياسية. هذا ليس حلماً وليس وهماً أيضاً. إنه حاجة مصيرية وملحة، وممرّ إجباري من أجل إنقاذ لبنان ومنع تمزيقه وشرذمته واسترهانه وتضييع ما بقي من عافيته وسيادته ومقوّماته. ولا يعني ذلك عدم بحث مسائل أساسية من نوع إقرار استراتيجية دفاعية، بل يعني إيجاد الأساس المناسب المساعد على بناء تفاهمات وطنية في هذا الصدد. إنه يعني أيضاً، وضع اليد اللبنانية على الجرح: «فما حك جلدك مثل ظفرك».
إذا ما أخذ فخامة الرئيس بهذا الاقتراح، فإنه يكون قد أقدم على خطوة تاريخية. ونستطيع القول إنّ هذا الأمر ممكن اليوم أكثر من أي وقت مضى. هذا رغم استمرار استشراء الانقسام المذهبي والطائفي، ورغم التدخلات الخارجية. ففي تطورات الأحداث الأخيرة، وخصوصاً منذ هزيمة العدوان الإسرائيلي على اليوم، برزت إشارات جدية لدور لبناني أكبر. إنها الفرصة لتطوير هذا الدور نحو عمل إنقاذي تاريخي، ونحو بناء وطن موحد وحصين وجدير بتضحيات أبنائه وبطولاتهم وإنجازاتهم في حقلي التحرير والمقاومة، والديموقراطية.
هل يقدم فخامة الرئيس تحديداً؟
* كاتب وسياسي لبناني