طوني صغبيني *نتائج «جانبية» كثيرة وعد بها الإعلام الغربي بعد الأزمة المالية الأخيرة التي عصفت بالأسواق الأميركية؛ سيكون هناك المزيد من الرقابة العامة، ستنمو اتكالية صناديق الأموال والاستثمار على خزينة الدولة لإنقاذها من مغامراتها الفاشلة. السوق العقارية لن تتعافى قريباً... وسيكون هناك المزيد من برامج الترفيه التلفزيونية! الخبر الأخير، قد لا يراه القارئ في وكالات الأنباء العادية، وسيكون عليه العودة أكثر من عشر سنوات إلى الوراء، إلى اجتماع ضم النخبة السياسية والاقتصادية والإعلامية العالمية في سان فرانسيسكو عام 1995، حين أطلق زبينغو بريجينسكي كلمته الشهيرة tittytainment، كآلية حلول للأزمات المتوقعة في النظام الدولي الجديد. كان الهدف من الورشة المذكورة تحديد ملامح النظام العالمي للعقود الثلاثة المقبلة، وكانت الخلاصة رقمين؛ 80 و20. فالعمل إلى زوال، وفي المستقبل القريب سيكون 20 في المئة من اليد العاملة البشرية كافياً لتشغيل الدورة الاقتصادية العالمية، إنتاجاً واستهلاكاً وخدمات، فيما سيقبع الـ80 في المئة الباقي في البطالة.
إنهما رقمان مخيفان، لكن الاجتماع الذي جمع أهم أقطاب النيوليبرالية، كالرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش الأب ووزير الخارجية الأسبق جورج شولتز ورئيسة الوزراء البريطانية مارغريت تاتشر، والرئيس السوفياتي السابق ميخائيل غورباتشوف، ورئيس شبكة الـcnn الإخبارية تيد وورنر، وأهم أقطاب المعلوماتية والأعمال والخدمات، لن يستحيل عليه ابتداع حلّ ما.
جمع بريجينسكي الكلمة من مصطلحي الترفيه intertainment، ومرادف الثدي في اللغة الأميركية الشعبية titty (رمز الغذاء والجنس)، هي إذاً tittytainment: الكثير من الترفيه والتغذية والجنس، لإسكات ثلثي البشرية الذي سيعيش مستقبلاً على هامش الرأسمالية الجديدة.
إنها معادلة القرن الواحد والعشرين: المزيد من الإلهاء للمزيد من العاطلين عن العمل!
معادلة تبدو ضرورية للرأسمالية في ظلّ العولمة، حيث أصبحت منظومات العمل تصبّ تلقائياً بعد كل أزمة اقتصادية لمصلحة زيادة نسبة البطالة.
فمن ناحية أولى، يمثّل الاقتصاد «الريعي» العمود الفقري لاقتصاد العولمة، وهو لا يرتكز على زيادة الإنتاج أو خلق فرص العمل، بل يقوم على المضاربة في الأسهم والعملات وتقلبات الأسعار والتجارة في أكثر الأحيان بمبالغ خيالية إلكترونية غير موجودة فعلياً.
نموّ هذا القطاع الاقتصادي «المتخيّل» على حساب القطاعات الإنتاجية، هشّم بطريقة غير مسبوقة إحدى المقولات المفضّلة للمتطرفين الليبراليين القائلة بأن «النمو يجلب الرفاهية والعدالة»، بعدما كانت تصحّ، ولو جزئياً، عندما كان النمو يعتمد حصراً على زيادة الإنتاج.
بالإضافة إلى ذلك، تمثّل ضغوط السوق الدولي الذي تكوّن في العقدين الأخيرين، حافزاً لسياسة الاندماج بين الشركات الكبرى، الصناعية والتجارية والإعلامية والخدماتية على السواء. لا مكان للشركات الصغيرة والفردية، ولا حتى الوسطى، فبحر العولمة الهائج لا مكان فيه سوى لأسماك القرش.
ومن المعروف أن الشركة الموحدّة الناشئة بعد الاندماج، الذي يحصل غالباً على صورة قيام الشركة الأقدر على شراء منافساتها، تقوم على عدد أقل من العمال بعد «غربلة» قاسية للموظفين. وفي الواقع، فإن الإعلان عن بيع شركة متعثرة أو اندماجها مع أخرى ناجحة، يرفع سعر أسهم الشركتين، على اعتبار التعاظم المرتقب لهامش الربح بعد تسريح العمّال.
كذلك، لا يمكن إغفال مساهمة حمّى الخصخصة في توسّع البطالة، بعدما اكتسبت دفعاً جديداً مع السياسات اليمينية الجديدة في أوروبا وأميركا وشرق آسيا.
ولعلّ جيوش المرتزقة التي ظهرت في العراق وأفغانستان هي أبلغ معبّر عن المكان الذي يتجه إليه هوس الخصخصة، حيث أصحبت كل مرافق الدولة ومهماتها معروضة للبيع، وحتى تلك التي كانت تُعدّ في الماضي من مقدّسات السيادة.
أما العامل الأكثر تأثيراً في تعظيم أزمة العاطلين عن العمل، فهي النتائج الناشئة عن خليط التضخّم وغلاء الأسعار وانسحاب الدولة من الرعاية الاجتماعية، الذي يطيح كل منجزات الحركة العمالية للقرن الماضي، ويزيد بشكل جنوني ساعات العمل، مقلّصاً حقوق العامل إلى أدنى المستويات.
تبخّر قيمة رواتب العمال والموظفين وأجورهم، والمنافسة الشديدة، تزيدان عدد الكادحين، وتؤدّي إلى اختفاء الطبقة الوسطى، في ظلّ ارتفاع أسعار المستلزمات الأساسية للاستقرار كالنفط والغذاء والعقارات.
يضاف إلى ذلك، ازدياد نسبة عقود العمل القصيرة والأعمال المؤقتة والموسمية والهامشية، التي تُعدّ عملياً وجوهاً أخرى للبطالة، وهو ما حذّرت منه أخيراً دراسة للأمم المتحدة قبيل الدورة الحالية لجمعيتها العمومية.
ورغم كل إشارات تعاظم الأزمات الاقتصادية مستقبلاً، وخاصة من ناحية ازدياد البطالة، فإن أسلوب استجابة القيّمين على الدورة المالية الأميركية في الأزمة الأخيرة يدلّ على تمسّك المراكز الرأسمالية بالمنظومة الحالية، لدرجة استعدادها لتخصيص أكبر مبلغ مالي في التاريخ لإنقاذ القطاع المالي من مغامرات صناديق أمواله، بدلاً من صرفها في تحسين وضع المواطنين المتدهور.
لماذا تستخفّ العولمة بهذا القدر، بظاهرة تزايد العاطلين عن العمل؟
ربما يكمن الجواب في تبدّل طبيعة السلطة في السنوات الأخيرة، بعدما انتقل النفوذ إلى الشركات المتعددة الجنسيات والكارتيلات الكبرى والمنظمات الدولية غير الحكومية وحتى الأفراد، على حساب الدولة. بل إن تحوّل محور النظام العالمي من السياسة إلى الاقتصاد بعد سقوط الاتحاد السوفياتي جعل الدولة إلى حد كبير، أداة تفاوض وضغط وكاسحة ألغام أمام الشركات الموجودة اليوم في مراكز القرارات الحكومية.
الفقراء والعاطلون عن العمل قد ينهضون للنضال، لكن هذه المرة سيكون الأمر مختلفاً، لأنهم سيواجهون سلطات سياسية لم تعد تملك مفاتيح الحلّ والربط. كما أنهم سيواجهون سلطة تعلّمت كثيراً من التجارب الرأسمالية في القرن العشرين، وإن كان لتعبير tittytainment من خطورة، فلأنه قبل كل شيء عملية احتيال على مفهوم الفقر: فقراء العولمة لن يجوعوا ولن يملّوا، وبالتالي لن... يثوروا!
من مصلحة البشرية أن تكون هذه المعادلة خاطئة.
* كاتب لبناني