أنسي الحاجوقعتْ صِدَفُ الكلام على اسم إميل خوري، وهو غير معلّق الصفحة الثالثة في «النهار»، فقال سعد كيوان، وهو غير الفنّان سعد كيوان مخرج الكتب وإنما قريبه سعد الصحافي: هل تقصد «الأستاذ الكبير»؟ فقال إميل منعم صاحب المكتب (على غرار صاحب الدار) ومُحرّك ما لا يَتحرّك: «الأستاذ الكبير!؟»، فقال قائل: «هو ذاته»، وأضاف: صحافي «الأهرام» كاتب الديباجة الفخمة على غير حَشْو، وهذا من النوادر، «كبير» آخر نَسِيَتْهُ الصحافة ولم يعد له أثر غير كتاب جمع فيه مقالات له تحت عنوان «آثار أقدام» وأصدره من دارته في برمّانا بعد تقاعده وعودته إلى لبنان، عن «دار النشر للجامعيين» في شباط 1956. وقد أوضح في مطلعه أن «جُلّ ما في هذا الكتاب نَشَرَتْه جريدة «الأهرام» في سنتي 1938 و1939» (وهو يقصد الجزء الأوّل منه، ولعلّ له جزءاً ثانياً وربّما ثالثاً لم يُسعفني الحظّ للحصول عليهما).
يجول الكاتب المراسل على دول أوروبا الشرقية والبلقان، مروراً بسويسرا وبلجيكا وهولندا وإيطاليا وتركيا اختتاماً بباريس، مجرياً مقابلات مع قادة عسكريين وسياسيين وصحافيين عشيّة الحرب العالميّة الثانية، في جوّ ملبّد بالغيوم الرصاصيّة محتقن بهواجس رؤيويّة على قرع طبول دعسات هتلر الأولى وتطميناته الخادعة بعدم الاعتداء وتهديداته السافرة التي كانت بريطانيا وفرنسا تتظاهران بالاقتناع أنها كلام فارغ لتعفيا نفسهما من الإيفاء بتعهّداتهما الخطيّة بحماية دول أوروبا الشرقيّة القابعة دوماً على شفير أشداقٍ ما تَهمّ بابتلاعها. يضعنا الكتاب كأنّه شريط سينمائيّ في صورة «الرؤوس التي تلعب بها فكرة الحرب»، مركّزاً على تصارع الديموقراطيّة البريطانيّة ـــــ الفرنسيّة مع الأوتوقراطيّة الهتلريّة ـــــ الموسولينيّة، متوقفاً تارة عند نواقص الأولى وطوراً عند فاعليات الثانية وخالصاً ببعض الكبت إلى إظهار تفضيل الأولى رغم انتكاساتها الأخلاقيّة وقد تبلورت في اتفاق ميونيخ، الذي خانت فيه لندن وباريس التزاماتهما حيال أوروبا الشرقية والبلقان أمام خوفهما من النازي وإيثارهما ـــــ خصوصاً الأولى بقيادة تشامبرلاين ـــــ لنمط الحياة الهنيئة على أخطار المواجهة ـــــ وقد تبلورت، إذاً، في اتفاق ميونيخ الذي تراجعت فيه بريطانيا وفرنسا أمام أنياب هتلر، ثم تراجعتا وأميركا روزفلت في نهاية الحرب أمام أنياب ستالين خلال مؤتمر يالطا الذي قسّم بقايا الطريدة بين الكتلتين.
رسائل هذا المراسل تؤرّخ المستقبل، فيما هي تُصوّر الحاضر وتسترجع خلفيّات هنا وتداعيات هناك. يؤرخ المستقبل، فيكفي أن تبدّل بعض الأسماء بأسماء أخرى، مثل فلسطين ولبنان والعراق محلّ بولونيا وتشيكوسلوفاكيا ورومانيا، والأمم المتحدة محلّ عصبة الأمم («مؤسسة رائدها النفاق»)، والولايات المتحدة وروسيا محلّ بريطانيا وفرنسا، إلى غير ذلك من العَوْدات المفحمة في صَفْعها، حتّى يستقيم ميزان اليأس لدى الذين كانوا ولا يزالون، كدولنا وبعض طوائفنا وقبائلنا، ينتظرون شيئاً من المحافل الدوليّة والمحاكم الدوليّة والتعهّدات الدوليّة. إنها قصّة الضعيف الخائف منذ فجر الإنسان. بين تعلّقاته الروحانيّة وتعلّقاته السياسيّة. كأن هناك مَن هو أقوى منه. الضعيف الذي يحسب جاره قوياً لمجرّد أنه مختلف أو يقيم في منزل أكبر. وحين يصحّ له أمل يظنّه مُنزَلاً، فيما هو صادر من أعماقه.
مراسل شمولي رصين وساخر بنعومة أرستقراطيّة يؤرّخ بظلال العرّاف وأنوار الرائي رغم قوله إن الصحافي «بحكم ما تفرضه عليه واجباته من مماشاة الأحداث والسعي إلى تفهّم ما قد يكشف عنه الغد، لا يستطيع الالتواء على الماضي إلا بقدر ما يعوزه البرهان أو تسوقه حاجة التدليل...». يؤرّخ حاضراً بدأ ينقلب على نفسه انقلاب نهاية العالم بفراسة غريبة هي مزيج من الواقعيّة والمثاليّة معزّزة باستقصاءات ميدانيّة ومقابلات شخصيّة وثقافة عامّة مهيبة.
يشكو العمل النقابي الصحافي في لبنان نواقص لا نعتقد أن أدهاها النظام الملكي الذي ترتع فيه المؤسستان النقابيّتان، بل التقصير التاريخي بحقّ نفرٍ من رجال الصحافة النوابغ أمثال إميل خوري ممّن تقضي أبسط الواجبات النقابيّة، ولا سيما حيال مَن لا ذريّة لهم، بلملمة آثارهم وإصدارها أو إعادة إصدارها مع دراسات تأريخيّة ونقديّة، إن لم يكن خدمة للصحافة فللتاريخ، وإن لم يكن خدمة لذكرى الرجال فلثقافة الأجيال التي بات معظمها يجهل معاني الأشياء، فضلاً عن جهله الكتابة.
يعقد إميل خوري فصلاً عن سويسرا عشيّة ابتداء الحرب العالمية الثانية يجدر بكل لبناني مطالعته ليقيس بمقياس الجديّة حجم الاختلاف بين سويسرا ولبنان. في البلدين جاليات: سويسرا مؤلفة من ثلاث جاليات، فرنسيّة وألمانيّة وإيطاليّة، وعلى حدودها الدول الأمهات الثلاث، ولبنان مؤلَّف من سبع عشرة جالية، وليس على حدوده إلا دولتان، إحداهما فقدت جاليتها الأصليّة بالفرار من وادي أبو جميل وما عادت تستروح إلا بفئات تخنقها الأكثريّة فتفزع إلى «الشيطان»، أو بافتعال المشاكل، أو بإسناد الآخرين ارتكاباتهم إليها ـــــ والثانية شقيقة تؤنّث لبنان عندما تريد تأديبه أو استعماله، وتُذكّره حين تريد أن تتدلّل.
كيف تَحوَّل كلّ سويسري جندي احتياط جاهزاً للدفاع عن استقلال بلاده حتّى الموت إذا هاجمها هتلر بحجّة ضمّ المنطقة الألمانية أو/ وهاجمتها إيطاليا موسوليني لضمّ المقاطعة الإيطاليّة وفرنسا لضمّ المقاطعة الفرنسيّة، علماً بأن الخطر الداهم الفعلي كان متمثّلاً في حشد جيوش الدولتين الأوليين على حدودهما وترويج الشائعات. يتوقّف الكاتب عند وطنيّة السويسريين وطباعهم: كان بينهم مَن استهوته العقيدتان الفاشستية والنازيّة، وأنشأ من وحيهما تجمّعين، «ولما عاد بعض السيّاح السويسريين من مدينة شتوتغارت الألمانية وقالوا إنهم رأوا في محطّتها خريطة «ألمانيا الكبرى» وفيها كل الجزء الألماني من بلادهم، عندئذٍ انفضَّ ذوو العقيدة الصحيحة من حول الدُّعاة فانهار البناء وغدا كل وطني سويسري ينظر إلى فلول الحزبين الأوتوقراطيين نظرة الحذر (...). وجدتُ في المقاطعات الألمانية السويسريّة، ولا سيما في المدن القريبة من الرايخ، كبال وزوريخ وشافهوز وسان غال، جزعاً كبيراً من سياسة هتلر، ولكنّي لم أرَ حركة ولم أسمع كلمة تدلّ على ميل للاستسلام للقَدَر أو للسير مع الظروف والخنوع للقوّة، بل رأيتُ قوماً قليلي الكلام بطيئي الحركات، لا يعقدون اجتماعات ولا يلقون خطباً، وكلّهم مدرك أن اليوم العصيب قد يكون قريباً وأن الغَلَبة ستكون فيه لوطنه، لأن كلّ فردٍ من بني هذا الوطن سيسترخص الموت في سبيل استقلاله. وإنّي أجد هذه الوطنية الصامتة الهادئة، التي تشابه في الكثير من نواحيها الوطنية البريطانيّة، أجمل الوطنيات وأصدقها».
لم أعرف هذا الكاتب. كنتُ، والأرجح كغيري كثيرين، أتضايق حين أقرأ عبارة «الأستاذ الكبير» مقرونة دائماً باسمه. هو واحدٌ من الذين جَنَت عليهم الألقاب. أسخف ما يحيط بمحمد عبد الوهاب لقب «موسيقار الجيل». أيّ جيل؟ ولماذا الجيل؟ وشاعر القطرين. فقط القطرين؟ ومَن سألهما رأيهما؟ وشاعر المقاومة. وشاعر المرأة. وشاعر لبنان. وشاعر الرافدين. وأديب العرب. وكوكب الشرق. وعذراء الشاشة. ووحش الشاشة. ما هذا؟ الشاعر مفترضٌ أنه شاعر، ومهما مال إلى ناحية أكثر من أخرى لا يصحّ تصنيفه إلا من باب التخصيص الجزئي لا التعميم. محمود درويش شاعر فلسطيني، ولكنه شاعر أيضاً خارج المصادرة الجغرافيّة. نزار قباني شاعر عاشق، ولكنّه كذلك شاعر متمرّد بالمعنى السياسي الواسع. أدونيس شاعر مفكّر ولا يُختصر بكونه حديثاً، ثم ما هي الحداثة ومَن هو الحديث؟ نازك الملائكة. يوسف الخال. بدر شاكر السيّاب. محمد الماغوط. سعيد عقل. أحمد شوقي. أمين نخلة. مَن هو كل واحد من هؤلاء؟ ومِن غيرهم؟ حذار اللقب. دائماً كان هو السّطحي القاتل.
إميل خوري أستاذ كبير حقّاً. ليتَ اللقب، فقط، جاءه من بَعْد.


عن غصون اللحظات

على رياح الهواجس
ومن تكرار الأغاني
وعن غصون اللحظات
ومن قراءة الصفحات
وعن راحة كفّ قلبه... طار عصفور
بحثاً عن الهواء الكبير
يعود إليه ابناً إلى أبيه
حكاية ترجع إلى الفم الذي أفلتتْ منه.