جانا رحاللطالما كان الباص وسيلتي الوحيدة في التنقل منذ سنوات عدة. لم أتخلَّ عنه يوماً، لأنه يشعرني بالأمان، والأغرب أنه يبعث فيّ الفرح. كنت أستمتع بمراقبة الناس والاستماع إلى أحاديثهم اليومية التي لا تنتهي. وخلال هذه السنوات الطويلة تعوّدت على وجوه كثيرة، وتعرفت إلى أشخاص كثر، وضحكت وانزعجت من مواقف عدة. ولكنني كنت أصادف دائماً شخصين غريبي الأطوار. الأول رجل في الخمسين من عمره يمكنني، بضمير مرتاح، أن أصفه بالـ«حشور» إلى أقصى الحدود. كان يصعد إلى الباص، ويتكلم مع الجميع ثم يروح يعطيهم الأوامر، وخاصة الصغار منهم. «أنت قعود هون» و«أنت قعود هونيك». لم يكن يسكت أبداً، وكنت أضحك دائماً عندما أراه يتعارك مع الركاب.
أما الرجل الثاني فيبلغ من العمر سبعين عاماً، وهو بصحة جيدة، كل الركاب يعرفه ولم يكن سويّ العقل. كان يصعد إلى الباص ويبقى يتنقل بين المقاعد، ويجبر الركاب على الجلوس في الأماكن التي يراها مناسبة لهم، وذلك بأسلوب غريب ومضحك... إلى أن جاء دوري، كنت جالسة على مقعد بمفردي. وهو جالس في المقعد الأمامي. صعد شاب في مثل سني وجلس بجانبي. لكن الرجل السبعيني لم تعجبه فكرة جلوسي بجانب شاب، فعرض عليّ أن أجلس مكانه بجانب الفتاة، لكني رفضت، لم يرق له موقفي، ما إن نزل «جاري» من الباص حتى قفز هو وجلس بجانبي ليفرض قناعته بـ«عزل» البنات عن الشباب.