يجب أن لا تمرَّ الذكرى عرضاً. هي محطّةٌ أساسيّة من محطّات السيرة التي تمثّلها سلالة الحريري منذ هَجمتِها على لبنان في مرحلة ما بعد الاجتياح الإسرائيلي عام 1982، أثناء الإعداد لاتفاق 17 أيار

أسعد أبو خليل*
هذه الذكرى ـــــ عندما أقام رفيق الحريري احتفالاً رسميّاً عرمرمياً مستوحىً من الاحتفالات الرسميّة العثمانيّة، وذلك لتكريم غازي كنعان ورستم غزالة، وفرشَ لهما السجّاد الأحمر، وأتى لهما بـ«الشربات» على ما يفعلون في الأفراح المصريّة ـــــ مهمّةٌ لأنها ترسم الحدود الفاصلة بين ما يدور في العلن وما يدور في الخفاء. يجب أن لا يثق الشعب اللبناني بسياسييّه في المقلبَين، لكن فريق الحريري سجّل رقماً قياسيّاً في النفاق السياسي وفي الوقاحة الأخلاقيّة. لم يعد رفيق الحريري وهو ميتٌ هو نفسه الذي كان حياً. الفارق بين الرجلين بات كبيراً إلى درجة تجعلُك تتساءل: أيّ من الرجليْن، أو أيّ من الصورتيْن لرفيق الحريري يجب أن نصدّق؟ هل نصدّق الصورة المُختلقة عن رفيق الحريري التي أسهمت في صنعها الكتب الهاغيوغرافيّة التي نشرت بعد وفاته، مثل كتب جورج بكاسيني ومروان إسكندر ونكولاس بلانفورد وآخرين كثر؟ هل نصدّق أن الحريري كان ذا شخصيّة سريّة مثله مثل سوبرمان، أي إنه كانَ مغلوباً على أمره، يا محسنين ومحسنات، يهادن ويساير ويحابي قادة الاستخبارات السوريّة في النهار، فيما كان يعملُ من أجل سيادة لبنان في الليل؟ ثم كيف يمكن أن تُوفّق بين سجلّ الحريري المنشور وأرشيفه المُوثق بالصور والمقالات والبيانات الوزاريّة والتصريحات، وما يُزعم عنه بعد وفاته وما يُعزى إليه، من أنه صانع سيادة وباني استقلال؟ أين رفيق الحريري الحقيقي في ما يُقال ويُحكى؟
يجب بداية التصريح بأن الصحافة العربيّة واللبنانيّة هي آخر ملاذ للباحث عن حقيقة الحريري. فالصحافة اللبنانيّة ـــــ ما عدا تلك الصحيفة الواحدة التي صدرت بعد وفاة الحريري ومن دون أمر من هاني حمّود ـــــ تلوّثت بمال الحريري ومال آل سعود وتوابعِهم. والصحافة اللبنانيّة تبعت مسار آل الحريري، كما هو، من دون زيادة أو نقصان. وكانت نشرة «المستقبل السلفي» خير دليل. فعندما يقتضي الأمر مديح النظام السوري، ينبري نصير الأسعد وفارس خشان ـــــ والأخير يُعتبرُ صحافياً في لبنان، وهذا دليل أن وطن الترمس منكوبٌ ببنيه ـــــ لمديح النظام السوري، وحكمة رئيسه. وعندما يقتضي الأمر هجاء النظام، ينبري نصير الأسعد وفارس خشان لهجاء النظام. وهناك من يضيع بين هذا الأمر وذاك. واختلط الأمر على كثيرين في لبنان إلى درجة أن البعض ينسى أن رفيق الحريري كان أداة بيد النظام السوري، وكان أكثر طواعية من فايز شكر ومن عاصم قانصوه (لماذا لا يندمج تنظيم حزب البعث في لبنان مع حركة اليسار الديموقراطي حتى يزيد عدد أعضاء التنظيميْن على الدزينة ستراً للفضيحة).
والتلوّن والانتهازيّة السياسيّة في لبنان سائدان إلى درجة أن الكلَّ اعتاد التحوّل من محور إلى آخر وبرشاقة وخفّة شديدتين ومن دون لفت نظر. حزب الله ينتقل من التحالف مع خصوم وليد جنبلاط إلى الثناء على دور وليد جنبلاط، وسامي الخطيب الذي قاد ببطولة قلّ نظيرُها جحافل الردع السوري في لبنان، أصبح هو أيضاً عاشقاً جديداً للحياة. لمَ لا؟
لكن تاريخ رفيق الحريري وسجلّه غير قابلين للمحو. فالرجل بدأ العمل السياسي في الفترة السوداء التي تلت الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982. والمرحلة مطبوعة بعار تدخّل العدو الإسرائيلي في شؤون لبنان: يومَها، كان مُطَبِّعو لبنان يتناطحون للتعامل مع العدو ولطلب إقامة علاقات معه. شارل مالك طالب «بمحاكاة حضاريّة» بين لبنان وإسرائيل. هي المرحلة التي كان أرييل شارون يُستقبلُ خلالها في بكفيا استقبال الفاتحين. وثبّت رفيق الحريري قدمه في لبنان ذاك، وأقام علاقات مزدوجة ومتوازية: مع أمين الجميل وفريق عمله، ومع فريق عمل النظام السوري في لبنان. ونذكر أن أمين الجميل (داعي 17 أيار، والذي يصدح اليوم بالدعوة إلى حياد لبنان) علّق وساماً أو اثنيْن على صدر الحريري. ولم ينسَ الحريري أن يقوم بما تقوم به الشركات الكبرى في أميركا عندما تغدق أموال الدعم الانتخابي على الحزبيْن ـــــ لعلمِها أن واحداً من الحزبين سيفوز. وأغدق رفيق الحريري الأموال على ميليشيات الحرب، لعلّ واحداً منها سيفوز. لم يميّز الحريري في عطاءاته لمجرمي الحرب: أسبغَ ذات اليمين وذات اليسار، وذات الميليشيات المرتبطة بإسرائيل. وعاد وأسهم في تحويل بعض حلفاء إسرائيل، مثل إيلي حبيقة (الذي تحدّث تقرير لجنة كاهان في شقّه السرّي عنه وعن فادي افرام على ما تسرّب إلى الصحافة الغربيّة)، إلى حلفاء خُلّص للنظام السوري. وعمل رفيق الحريري ـــــ الذي كان سعودياً في بداية إطلالاته السياسية ـــــ إلى جانب فريق السياسة الخارجيّة السعودية من أجل الترويج لحكم أمين الجميل وللإسهام في إمرار اتفاق 17 أيار المشؤوم ـــــ لماذا لا يصرّح وليد جنبلاط وآخرون بمكنوناتهم، بأن إصرارَهم على «العودة إلى اتفاق الهدنة» ما هو إلا محاولة لإنعاش اتفاق 17 أيار؟

عن رفيق الحريري ورستم غزالة



سعى رفيق الحريري مع قادة الفريق الإسلامي ـــــ إذ إن الصراع تعرّض للفرز الطائفي مذّاك بعد اندثار «الحركة الوطنيّة» اللبنانيّة التي ضمّت من لم يكن يستحق الانضواء فيها من أمثال محمد قبّاني (الذي كان يُعدّ لحفل تكريم فخم لرستم غزالة قبل أن يتمنّع الأخير عن الحضور احتراماً لمقام رفيق الحريري، ومخافة أن تظنَّ الصحافة أن غزالة يعدُّ خليفةً للحريري، على ما روى لي واحد من نوّاب الحريري) وسنان برّاج وآخرين من متطفّلي الحركة وطفيليّاتها. توسّط رفيق الحريري بالنيابة عن أمين الجميّل بعدما تعرّض للمقاطعة من الفريق الإسلامي نتيجة طائفيّة نظامه وجرائم هذا النظام الذي كان يحظى آنذاك برعاية أميركية ـــــ إسرائيليّة ـــــ سعوديّة (التحالف السعودي ـــــ الإسرائيلي ليس ابن ساعته). لكنّ تفاقم الصراع في لبنان، بالإضافة إلى تلاحم الحلف السوري ـــــ السعودي، ما لبث أن باعد بين أمين الجميل ورفيق الحريري الذي كان يرغب في تولّي رئاسة الوزارة (تحفل مذكرات عبد الله بو حبيب بتفاصيل عن تلك المرحلة). وجد رفيق الحريري أن تحالفَه الوثيق مع النظام السوري يتطلب تعزيزَ التحالف مع ميليشيات بيروت الغربيّة. تحوّل مؤيّد 17 أيار إلى معارض له، بين ليلة وضحاها. لكن الحريري لم يتوقف عن العلاقة السريّة مع نظام الجميّل، وكان حاضراً في أروقة جنيف ولوزان. والباقي بات معروفاً بتفاصيله. أدرك الحريري أن طريقه إلى السرايا الحكومية لا يمرّ عبر الرياض وحدها بل عبر دمشق. ابتاعَ لنفسه منزلاً منيفاً في العاصمة السورية، وتطوّع لبناء قصر رئاسي ملكي زيادةً في التملّق والتقرّب. وكان الحريري متعجّلاً لا يلوي على شيء. تزامن مشروع المساعدة الطلابية لمؤسّسة الحريري مع محاولة بناء الزعامة. والدعم السعودي ـــــ السوري لم يكن في فراغ: فقد فتح الحريري مكتباً في العاصمة واشنطن، واستعان بسياسيّين مرموقين من الذين يسهلُ شراؤهم. السناتور تشارلز برسي كان واحداً منهم، بالإضافة إلى بوب ماكفرلين المنبوذ منذ فضيحة إيران ـــــ كونترا (وقد روّجت له جريدة «المستقبل السلفي» أخيراً كأنه مستشارٌ نافذ في فريق عمل جون ماكاين، مع أنه هامشي. وحاول ماكفرلين أن يقنع النشرة بأن كشف «الحقيقة» هي أولويّة ماكاين في السياسة الخارجيّة) لكن النظام في سوريا تريّث، وكان فريق الحريري داخل النظام يعمل بجهد وكدّ. والفساد في لبنان وسوريا كان العونَ الأكبر في إطلاق زعامة الحريري. لم يكن الحريري قد أتقن لعبة التحريض المذهبي بعد. عليكَ أن تعترفَ. بدأها مبكراً: همساً ولمساً وتلميحاً وتصريحاً ورمزياً. الراعي الفاسد له (في دمشق وفي لبنان) أطلقَ يده. المال وفير والجيش الشقيق قدير في السيطرة على لبنان وساسته. لم يحسب الحريري حساباً: ان إثارة الفتنة المذهبيّة تنقلب على اللاعب وتعزّز قدرة الخصم (المذهبي). لم يحسب حساباته بدقة. كان أكثر من استعان بالتدخل الشقيق من أطراف الترويكا التي تقاسمت الغنيمة. لكن المؤامرة حلّت بعمر كرامي، وهو يمارسُ السياسة بعفويّة قاتلة. يثور ويغضب ويقرّر بعصبيّة. واجه حملة شاملة تحت عنوان المطالب الاقتصادية (كأن الحريري هو نصيرُ الطبقة العاملة): وروى نبيه برّي في السيرة التي كتبها نبيل هيثم أن مستشارَ الحريري، جوني عبده (الذي كان يقول لقوات العدو الإسرائيلي الغازية في 1982 إن قصفها لبيروت لم يكن عنيفاً بما فيه الكفاية، على ما روت مراجع عبريّة عن تلك المرحلة) لم يكن بعيداً عن مؤامرة ذلك اليوم الداكن في أيار.
نُصّبَ رفيق الحريري، وعرف كيف يتأقلم. كان يحكمُ متكبّراً ومتعجرفاً: استفزّ حتى بعض الحلفاء. كان يبتاع الناس، ويحرص على إظهار قوائم المُتلقّين إمعاناً في الإذلال. كانت النقود توزّع على مرأى من الصحافيّين والسياسيّين التابعين، والقوائم المطبوعة توضع على طاولات ليسهل استراق النظر إليها. أراد بداية أن يحكم كفرعون: النظام السياسي، كما هو، أزعجه. عاجل في طلب صلاحيات نابوليونيّة من الرئيس حافظ الأسد الذي طالبه بالتفاهم مع الآخرين، وهم حلفاء الشام أيضاً. وافق على مضض. ألّف فريق عمل متكاملاً. وكان إلياس الهراوي خيرَ رئيس له: مطواع وسريع «الاقتناع»، مثله مثلما كان شفيق الوزان في عهد أمين الجميل (تذكّر في سنواتِه الأخيرة أن أمين الجميل لم يكن يستشيره في شيء، كما روى لي ذات مرّة). لكن الهراوي كان فضائحياً ويعرف كيف يصل إلى آمري الحريري في الرياض وفي دمشق (تُراجع حلقة برنامج «زيارة خاصة» مع الهراوي، والتي روى فيها تدخّلَه مع الملك السعودي لتغيير رأي الحريري في مسألة تسمية المدينة الرياضيّة). لكن نظام لحّود كاد أن يكسر الجرّة.
وتزامن تعيين لحّود مع تغيير طاقم الرئيس السوري المعني بشؤون لبنان. شكّل بشار الأسد فريقاً خاصاً به. أُبعد فريق الحريري النافذ في قلب النظام. انعكس التغيير ارتباكاً في أداء «حلفاء» سوريا في لبنان. تضاربت الأوامر، وتغيّرت التحالفات. وصعود لحود لم يعنِ أن الحريري توقف عن ولائه وعن انصياعه، بل عنى أن خلافات حلفاء النظام السوري تفاقمت. لكل حساباتُه وتحالفاتُه. والمال كان متوافراً للطرفين: من ثروة الحريري ومن بنوك الفساد العاملة في لبنان. ثم يجب أن لا نغفل دور الطامح السعودي ـــــ اللبناني الآخر: الأمير الوليد الذي كان منافساً للحريري، ومتحالفاً ـــــ لإتقان المنافسة ـــــ مع لحود، ويعمل في الساحة هو أيضاً. لكن الحريري عاجلَهم بسلاح لم يكن متوافراً أو متوفراً. انتخابات عام 2000 كانت المفصل. عبّأ الحريري الجوّ بنفسٍ مذهبي حادّ: زادَ الحديث عن «موقع رئاسة الحكومة» (لاحظنا أن فؤاد السنيورة يفعل الشي نفسه: ما إن يتعرّض للنقد حتى يدافع عن «موقع رئاسة الحكومة»، كأن الموقع هو الذي أثقلَ كاهلَ الأجيال اللبنانيّة بالديون والضرائب، وذلك من أجل التعبئة المذهبيّة ولتصوير الخصوم أعداءً مذهبيّين، وأي كلامٍ عن تجاوزات الهيئة الدنيا للإغاثة يُعتبر في لبنان اليوم هجوماً على عثمان بن عفان وخلافتِه الراشدة). ومما ساعد الحريري، أن دعاية جميل السيّد بالنيابة عن لحود أفرطت في الغباء، وفي أشياء أخرى غير لذيذة. وعاد رفيق الحريري رئيساً للحكومة ووعد النظام في سوريا بمزيد من الطاعة والولاء والانصياع.
لكن الذروة كانت في ذلك الاحتفال المهيب في السرايا الحكومية. القديم والجديد وقفا ليستمعا إلى خطاب من الكلام الإنشائي المُهين لقائله ولمُتلقّيه. وقف غازي كنعان ورستم غزالة ليسمعا رفيق الحريري وهو يثني على النظام في سوريا وعلى أجهزة استخباراته. لا، لم يكن مغلوباً على أمره. لا يَحكم المغلوب على أمره لأكثر من عقد من الزمن، ولا يُلقي المغلوبُ على أمره خطباً طويلة. قال رفيق الحريري (غير المغلوب على أمره) عن رستم غزالة وغازي كنعان ورفاقهما في الاستخبارات السورية في ما قال: «لقد عشنا معاً ما يزيد على عشر سنين... ووقفتم دائماً وأبداً إلى جانب لبنان. ولا أبالغ ولا أقول هذا الكلام للمرة الأولى، بل قلته مرات عدة. كنت أشعر باستمرار أنكم المدافعون الأوائل عن مصلحة لبنان العليا. وكنت أتمنى أن أجد كثيراً من الإخوان اللبنانيين في مستوى تفهّمِكم لمشاكل الدولة والبلاد والحكومة والوضع السياسي العام والأخطار والتحديات التي تواجهنا... قمتم وتقومون وستستمرون بالقيام بواجباتِكم في خدمة بلدكم سوريا ولبنان. والهدية التي أهديمتونا إياها هي الأخ رستم غزالة... وقد برهنت الأيام خلال عشر سنين، إن كنا في السلطة أو خارج السلطة، أنكم والأخ رستم كنتم نِعْم الصديق والأخ الوفي الذي وقف دائماً إلى جانب مصالح سوريا ومصالح لبنان». (النص في «الشرق الأوسط»، 9 تشرين الأول، 2002). مغلوبٌ على أمره وكل هذا الكلام؟ مدّاحُ عنجر (وهو غير مدّاح القمر) لم يكن مغلوباً على أمره اطلاقاً.
صحيح أن علاقة الحريري بالنظام في سوريا ساءت في عهد بشّار، لكنّه بقي رئيساً للحكومة. وبقي محافظاً على ولائِه وانصياعِه. غير أن حافظ الأسد كان قادراً على الحفاظ على علاقات شبه متساوية مع حلفاء سوريا وأدواتها في لبنان، وإن تنافسوا وتناحروا. أما في عهد بشار، فصار النظام ينحازُ في تلك التحالفات والتناحرات. وهناك عامل آخر: فطموحات الحريري النابوليونية بعد انتخابات 2000 وبعد موت الأسد ألأب، تعاظمت وتنامت («من بعد فتح الأرض ماذا تبتغي، فأجاب انظرْ كيف أفتتح السما»، كما قال خليل مطران). وبعدما فتح عائشة بكار والزيدانيّة أراد الحريري أن يفتحَ الشام، لكن النظام كان له بالمرصاد. ويُقال كلام كثير رواه «جاشوا لاندس» عن محاولة انقلابيّة كان الحريري يعدُّها بالاتفاق مع السعودية. لكن عواملَ أخرى دخلت على الخط. تغيّرت السعودية ومصر بعد 11 أيلول: ما عادت واشنطن تقبل إلا بالولاء التام والجهدي. والحلف الوثيق بين سوريا والسعودية انفرطَ عقدُه لأسباب لا تزال غير واضحة، ومن الأكيد أنها سبقت اغتيال الحريري رغم مزاعم إعلام آل سعود.
لكن علاقة الحريري بالنظام في سوريا بقيت على حالها من الودّ بالرغم من الخلاف غير المستتر بين الحريري ولحود على مسائل لا علاقة لها بالسيادة أو بسوريا أو بالمقاومة. ولم يتوقف الحريري عن الإشادة بسوريا ودورها في لبنان، وبقي على تواصل مع النظام السوري وأجهزة استخباراته العاملة في لبنان. لكن الحريري تغيّر هو أيضاً بعد 11 أيلول، وهناك ما كُتب عن دورٍ له (اقتصادي؟) في العراق المحتلّ. وكان أياد علاوي (صديق كل أهل السياسة في لبنان، ولا سيما نبيه برّي، مع أنه دميةٌ استخبارية قد بدأ في العمل لأجهزة صدام في أوروبا ثم انتقل من دولة إلى أخرى، كما أنه أرسل سيارات مفخخة إلى العراق على ما جاء في مقالة عنه في مجلة «نيويوركر») على علاقة «بزنس» مع الفتى سعد بن رفيق ـــــ وهو «تطوّر»، على ما طمأننا وليد جنبلاط الذي يتذكر فلسطين هذه الأيام.
وبيانات حكومات الحريري الوزاريّة ماثلة للعيان ومحفوظة في الأرشيف. ومروان حماده يقول إنه كان يخاف سطوة النظام السوري. لكنّ لا أحد يجيبنا عن تساؤل بديهي: لماذا لم يستقل، ولماذا لم يجمع حقائبه ويرحل؟ ويحدّثنا آخرون عن ضغوط تعرّض لها. وقد روى لي قبل أكثر من سنتين رضوان السيد (الناشط مذهبياً هذه الأيام والذي لم يتوقف عن التفجّع على الملك فهد منذ وفاة الأخير) أن رستم غزالة أمسك بقميص الحريري في ذلك اللقاء الشهير. وهناك من يضيف تفاصيل تتضخّم على ألسنة الرواة، وفريق قريطم يضيف تفاصيل أخرى عن تهديد بالمسدس. لكن السؤال البديهي الذي وجهتُه يومها لرضوان السيد هو: ولماذا يقبل رفيق الحريري بهذه المذلّة؟ ولماذا يقبل بسلسلة من الإهانات التي يحدثونك عنها اليوم ـــــ اليوم فقط؟ الجواب بديهي هو أيضاً. شهوة السلطة وعقدة الكرسي أعمت بصيرته وبصره، لم يعدْ يلتفت إلى كرامته ولا إلى كرامة الوطن الذي يقولون لنا اليوم إنه مات من أجله. وهل هناك من لا يموت من أجل الوطن في لبنان؟ حتى قَتَلة ضحايا صبرا وشاتيلا ماتوا من أجل الوطن ـــــ يقولون لنا اليوم ويحضر حفل تكريمهم ممثّلٌ عن رئيس الجمهوريّة. وإذا كان الحريري يرى، على ما يرى خليفته ومستشاروه اليوم، أن النظامَ في سوريا مسؤولٌ عن كل الويلات التي حلّت بالوطن على امتداد العقدين الماضيين، فلماذا تحالف معه كل هذه السنوات؟ أهي تلك الغشاوة التي حلّت بناظري وليد جنبلاط الذي نسيَ أن يتذكر فلسطين أثناء جولاته الأميركيّة؟
الحريري أخلصَ في العلن للنظام في سوريا. لم يتعرّض للنظام بكلمةِ نقدٍ علنيّة واحدة. كان يدافعُ عن النظام حتى آخر يوم، بما فيها تلك المقابلة الأخيرة في جريدة «السفير» والتي تضمّنت إشارة غير مبطّنة إلى أمين الجميل (كان هذا قبل ان تجمعَ الصداقة بين سعد الحريري وبيار الجميل الحفيد، وكان الاثنان على ما روى عارفون يتهاتفون يومياً لمناقشة قضايا وجوديّة وفلسفيّة إذ إن الحشريّة العلميّة جمعت بين الاثنين). لكن رفيق الحريري كان اثنيْن: علني وسرّي. العلنيُّ يدافعُ عن النظام، ورفيق الحريري السرّيّ يعملُ من أجل قلبِ النظام في السرّ. العلني كان يعلن معارضتَه للاحتلال الأميركي في العراق، بينما السرّي يساعد الاحتلال بوسائله الخاصّة. العلني يعلن معارضةً منافقةً للقرار 1559، بينما السرّي هو الذي تكفّل الإعداد للقرار بالتعاون مع تيري رود لارسن وبتكليف من فرنسا وأميركا والسعوديّة.
لكن الناس تتغيّر بعد موتها. تتحوّل الجثة إلى نقيضها في الحياة.
* أستاذ العلوم السياسية في جامعة كاليفورنيا
(موقعه على الإنترنت:
angryarab.blogspot.com)