ريمون هنودفي أوائل تموز 1925، اندلعت الثورة السورية بقيادة سلطان باشا الأطرش ضد الاستعمار الفرنسي. وفي 20 تموز 1925، حصلت صدامات عنيفة دامية في بيروت على أثر تظاهرات قام بها المستأجرون وواجهتها السلطات الفرنسية بالقمع الشديد موقعةً العديد من القتلى والجرحى. وفي 22 تموز 1925، عقدت اللجنة المركزية للحزب الشيوعي اللبناني اجتماعاً، ناقش قضيتين رئيستين: تظاهرة المستأجرين في بيروت والثورة السورية، وتقرر أن يدعم الحزب قضية المستأجرين في سبيل نيل مطالبهم، ودعم الثورة السورية ضد الاستعمار الفرنسي بكل ما أوتي للحزب من إمكانات، بما فيها التنسيق مع الحركة الشيوعية العالمية لإيجاد سبيل أو سبل مناسبة لدعم الثورة. من وسائل دعم الثورة السورية: توزيع المناشير على الشعب وعلى الجنود الفرنسيين، وتزويد الأحزاب الشيوعية في العالم وصحافة هذه الأحزاب ومركز الأممية الشيوعية بأخبار الثورة السورية.
ويقول فؤاد الشمالي في هذا الإطار: بدأت النشرات الشيوعية توزع في أنحاء الجبل وبيروت، والنشرات كانت تحضّ الشعب اللبناني على دعم الثوار والتعاضد معهم. وبعض النشرات كانت تطبع باللغة الفرنسية خصيصاً لتوزع على الجنود الفرنسيين لحثّهم على التمرد والعصيان، وهذه النشرات الفرنسية ألصقت في زحلة والمعلقة ورياق، وقد فوجئت سلطات الانتداب واغتاظت وبدأت حملة تفتيش ومداهمات.
لكن عملية توزيع المناشير كانت تتصاعد. وهذه النشرات كانت تحت توقيع اللجنة المركزية للحزب الشيوعي في سوريا ولبنان. رجال الأمن العام في بيروت والجبل توزعوا بهدف القبض على موزعي المناشير، وخلال أشهر عدة لم يستطيعوا القبض على أحد. ولكن المعضلة كانت في ما بعد عندما اندسّ شخص أرمني يدعى باتريك إلى صفوف الحزب، وذلك عبر تزويده ببطاقة مزوّرة توهم أنه من أعضاء الحزب الشيوعي الفرنسي.
وباندساسه قُبض على عدد من أعضاء اللجنة المركزية للحزب وأصدقاء الحزب منهم: فؤاد الشمالي، أرتين مادويان، هيكازون بوياجيان، يوسف إبراهيم يزبك ومحازب يدعى علي ناصر الدين كان صلة الوصل بين الحزب والثورة السورية.
وقد زجّت سلطات الانتداب بالمعتقلين في سجون بيروت أولاً. وكما جاء في كتاب فؤاد الشمالي، كانت التهمة تحريض الأهالي على الثورة المسلحة، وتحريض الجند على العصيان، وهذه التهمة تقضي بعقوبة الإعدام.
ويذكر يوسف إبراهيم يزبك: كان لون المنشور أحمر، وكتب عليه: أيها الجنود، يا أبناء العمال والفلاحين، إن الثوار الذين يدعوكم الاستعمار إلى قتلهم هم عمال وفلاحون مثلكم ومثل آبائكم. فبدلاً من أن تصوّبوا بنادقكم إلى صدورهم، من الواجب أن تصوبوها إلى صدور الجنرالات والرأسماليين الذين يسفكون دماءكم لأجل مصالحهم.
وبعد فترة، وزعت سلطات الانتداب المعتقلين على سجون شتى: يزبك إلى سجن أميون، مادويان وبوياجيان إلى سجن قلعة القدموس في جبل العلويين، فؤاد الشمالي وعلي ناصر الدين إلى سجن جزيرة أرواد قبالة مدينة طرطوس ثم إلى سجن قلعة القدموس.
وفي هذا السجن، أتمّ فؤاد الشمالي كتابه الكفاحي الذي سمّاه «نقابات العمال». وقبل التحدث عن كتاب الشمالي، فإنّ يوسف إبراهيم يزبك ترجم وهو في سجن أميون رواية «كرانكبيل» لأناتول فرانس ونشرت هذه الرواية في ما بعد تحت عنوان «فقير أمام
الفضاء».
أرتين مادويان وهيكازون بوياجيان أصدرا وهما في سجن الرقة جريدة باللغة الأرمنية اسمها «سبارتاك» ومطبوعة بواسطة الجيلاتين، العدد الأول صدر في كانون الأول سنة 1926 فيه معلومات عن الثورة السورية وعن إضراب عمال النسيج في حمص وحماه وغيرها.
وبالعودة إلى كتاب فؤاد الشمالي الذي أتمّه في السجن، هذا الكتاب الكفاحي الذي سمّاه «نقابات العمال» يركز على المضمون السياسي للنقابة، إلى جانب النزعة المطلبية. فالنقابة هي قوة سياسية فضلاً عن أنها قوة اقتصادية واجتماعية كبرى. أما التوجّه العام للكتاب فهو توجه عربي، لا تقتصر موضوعاته على لبنان فقط، فالاقتراحات التي يقدمها لوضع قانون الاتحاد العام للنقابات، إنما هي مقدمة إلى نقابات العمال وأحزابها في الأقطار العربية برمتها.
ويدعو الكتاب إلى اتحاد النقابة مع غيرها ومع أحزاب العمال، ويدعو إلى تكوين اتحاد عام للنقابات، فالعامل لا يستطيع بمفرده الدفاع عن حقوقه، كذلك النقابات فإنها بأشد الحاجة إلى الاتحاد المتين. ويقدم كتاب الشمالي بنود قانون للاتحاد العام للنقابات مفصلاً ومؤلفاً من خمسة فصول و51 مادة. ويقدم أيضاً بنود قانون لحماية العمال وضمان حياتهم من طوارئ العمل وتأمين تعويضات المرض والشيخوخة، ويلح الكتاب على ضرورة اشتراك الاتحاد العام في مؤتمرات العمال في العالم ووحدة الجبهة العالمية لمواجهة الاستغلال الرأسمالي والسيطرة الامبريالية على العالم.
ويدعو الكتاب بإلحاح شديد إلى ضرورة تنسيب المرأة في النقابات. إن إنجاز كتاب عن نقابات العمال في خلال أيام السجن داخل معتقلات الاستعمار الفرنسي، كان شكلاً من أشكال الكفاح التحرري الوطني ضد السيطرة الفرنسية الامبريالية. إن إنجاز كتاب «نقابات العمال» داخل سجن الانتداب الفرنسي شرف كبير للوطنيين والشيوعيين اللبنانيين الذين ساهموا في دعم الثورة السورية ضد الاستعمار الفرنسي.