لا يعاني أهل الساحل برداً قارساً لدرجة يتحوّل معها تأمين التدفئة في فصل الشتاء إلى موضوع دراماتيكي للفقراء. لكن، بما أن الحرارة تتناقص كلما اتجهت شمالاً، يتحوّل موضوع تدفئة الشتاء إلى أساسيّ في طرابلس مثلاً، التي تقلّ درجة حرارتها 4 درجات عن حرارة العاصمة المعتدلة. ويصبح القرار باعتماد واحدة أو أكثر من وسائل التدفئة المتوافرة، أساسياً في تحديد ميزانية الشتاء
ديما شريف
«لا أطفئ المكيّف، بس بيصير ع الساخن أكيد: من أول تشرين حتى نهاية آذار» تجيب شادية طقان، السيدة الستينية الطرابلسية، عن سؤالنا عن أيّ وسيلة تدفئة ستعتمد هذا الشتاء. وتؤكد طقان أن لا شيء ينفع مع برد عاصمة الشمال إلّا المكيّف. لا تكترث السيدة لفاتورة الكهرباء المرتفعة، فهي تعوّدتها، لأنها تريد أن تعيش مرتاحة كما تردّد. وتضحك عندما تخبرنا كيف عارضت تركيب مكيف منذ 10 سنوات، عندما قرر ولداها إهداءها إياه في عيد الأم، لكنها لا تستطيع العيش دونه اليوم، وخصوصاً في فصل الشتاء. جارتها، أمينة كبّارة، تستعمل المكيف أيضاً للتدفئة شتاءً ولكن لفترة وجيزة مساءً لتدفئة غرفة النوم، وتعتمد على مدفأة الغاز لأنها ترتاح لها أكثر، وتستطيع أن تسخّن الأكل عليها كما تقول. وتؤكد الجارتان أنهما رفعتا نسبة اشتراكهما في مولّد الكهرباء إلى عشرة «أمبيرات» حتى لا تحرما نفسيهما استعمال المكيّف، صيفاً وشتاءً.
هاتان السيدتان تمثّلان حالة استثنائية في طرابلس «أم الفقير»، لكونهما ميسورتي الحال، وتستطيعان تحمّل كلفة فاتورة كهرباء، واشتراك مولّد، في ارتفاع دائم. ولكن أغلبية العائلات الطرابلسية تضطر إلى التأقلم مع الوضع المعيشي والارتفاع في الأسعار الذي يطرأ دائماً على المحروقات، لاختيار وسيلة التدفئة الأنسب لصحة أفرادها وجيبهم.
قرر محمود هوشر، وهو أب لخمسة أولاد يتعلمون في مدارس خاصة، أن يتخلى منذ سنوات عن المدفأة الكهربائية، والاستعاضة عنها بأخرى «على الغاز لكونه أوفر». ولكن مع ارتفاع أسعار الغاز، اتخذ محمود قراره السنة الماضية بالعودة إلى «منقل الفحم»، بعدما قاربت فاتورة قوارير الغاز المئة ألف ليرة في الشهر. «أولادي أحقّ. تلزمهم حاجيات كثيرة للمدرسة في الشتاء، وأفضّل صرف هذا المبلغ على ذلك». يتدخل حسين ابنه، ذو الثلاثة عشر عاماً، ليقول إنّه شاهد على «قناة الديسكوفيري» أنّه مع الاحتباس الحراري «ما عادت الشتوية كتير باردة».
زياد الأحمد من جهته، يحتفظ «بالمنقل للزينة فقط» كما يقول. ولا يسمح لزوجته باستعماله لأنّ «الفحم والدقّ» يضران بالصحة. تعتمد عائلة زياد على المدفأة الكهربائية لتدفئة غرف النوم، ومدفأة الغاز لغرفة الجلوس. «نحتاج إلى ثلاث قوارير غاز في الشهر، لأننا لا نطفئ المدفأة إلا عند الذهاب إلى النوم»، يؤكد زياد، الذي احتسب إلى جانب سعر القوارير، فاتورة الكهرباء الناتجة من استخدام تلك التي تعمل على الكهرباء، فوجد أنّها أوفر من استخدام المكيف الذي يتركه لفصل الصيف. وتعترض زوجته دائماً حيث إنهم لا يستطيعون أكل الكستناء إلا لماماً «لأنّ زياد يكره غبرة الفحم ورائحته». وترى أن ضرر مدفأة الغاز والمنقل سيّان.
عائلة زياد ليست وحدها التي تعتمد مزيجاً من أنواع التدفئة للتوفير. فجورجيت خوري وزوجها اللذان يسكنان في مدينة الميناء، اعتمدا على وسيلتي الكهرباء والفحم اللتين يعتقدان أنهما الأوفر. أما المدفأة الكهربائية، فيستخدمانها لفترة وجيزة عند اشتداد البرد والرطوبة، فيما الاعتماد بشكل كبير على «منقل الفحم». وتعترض جورجيت على الغش الذي يقوم به أحياناً بائعو الدق والفحم، ففي مرات عديدة اضطرت إلى رمي ما اشترته «لأنه رطب جداً ولا يشتعل». وترفض جورجيت استعمال مدفأة الغاز التي تملكها منذ بداية زواجها، لخوفها من زيادة المصروف. «يكفينا ما نشتريه من قوارير للطبخ شهرياً. وسعر الجرة الجديدة (فراغة + غاز) أصبح تسعين ألفاً. أستطيع أن أشتري بهذا كمية كبيرة من الفحم».
وتمثّّل العائلات التي تستعمل أكثر من نوعين من التدفئة حالات قليلة. كعلي الكردي وزوجته اللذين يستخدمان مدفأة على الكهرباء في غرف النوم والحمام، وعلى الغاز في غرفة الجلوس إلى جانب «المنقل» الذي لا بد منه. «لا شيء يدفّئ مثل الفحم» يؤكد علي، فيما زوجته تقول إنّهم يوفّرون صيفاً لفاتورة التدفئة في الشتاء، التي يرتفع رقمها من سنة لسنة «ولكن لا يهمنا لأن صحة الأولاد أهم من الأموال».
ولكن يظهر بعد جولة على عدد من المنازل اعتماد عدد كبير من العائلات على التدفئة التقليدية، على الفحم لارتفاع سعر الغاز. ويؤكد هؤلاء أن استهلاك الغاز وشراء المدافئ في تراجع. تقول ربى صباغ إنّها أعطت مدفأتين على الغاز كانت تملكهما لشقيقها لأنها لم تستعملهما منذ موسمين لكونها لم تعد تستطيع تحمل مصروفهما.
موضوع ينفيه مصطفى العلي وهو صاحب متجر متخصص في بيع الأدوات الكهربائية. قبل فصل الشتاء يضيف مصطفى إلى مجموعة المدافئ الكهربائية في متجره، أخرى على الغاز. ويؤكد أنّ نسبة المبيع لم تنخفض بشكل كبير في السنوات الماضية، وهو لا يزال يبيع تقريباً العدد نفسه سنويّاً مع انخفاض بسيط جداً لا يتعدى الواحدة أو الاثنتين. ولكن يلاحظ مصطفى أنّ عدداً كبيراً من الزبائن يسألون دائماً عمّا «تصرفه المدفأة الكهربائية قبل شرائها». ويؤكد مصطفى أنه حتى النساء من زبائنه يردّدن السؤال التقليدي «كام واط بتصرف هالدفاية؟» عند اختيار واحدة. ويلاحظ أن الأغلبية تشتري تلك التي يمكن التحكم في درجة حرارتها، أي التي تحتوي مستويين أو أكثر من الحرارة.
أما أبو فادي شعراني، وهو بائع فحم ودق في أحد شوارع طرابلس، فيقول إنّه يسمع عن تخلي الناس عن المدفأة الكهربائية، وتحوّلهم إلى الفحم دون أن يرى نتيجة ملموسة في نسبة المبيع في متجره. «منذ عشر سنوات وأنا أبيع بالنسبة نفسها. لم تتغيّر هذه النسبة حتى مع ارتفاع أسعار الغاز والكهرباء. والناس لن يتخلّوا عن وسائل التدفئة ولو اضطروا إلى الأستدانة، أليس كذلك؟ ». يسأل.