راجانا حميةيصحو محمد رياض، وهو الاسم الذي يناديه به أبناء حيّه في بلدته طاريّا البقاعية، قبل شمس الصباح بقليل. يفتح عينيه وينهض بسرعة كما لو أنه لم يكن نائماً. على عجل، ينتعل حذاءه الحاضر دائماً إلى جانب الفراش، ويحمل عدّته التي لم تتعدَّ يوماً كيساً كبيراً من «النايلون». يبدأ محمد «مشواره» من حيّه، متنقّلاً بين بيوت الجيران، يجمع في كيسه ما يجده في الطريق، وأمام تلك البيوت من أحذية قديمة. وإذا ما اكتفى بـ«غلته»، يتوقف، وإلّا فإن جولته تمتد إلى الأحياء المجاورة. لدى عودته، يجد محمد عائلته منتظرةً قدومه. فهي تتّكل عليه من أجل إيجاد وقود «مبتكر» للمدفأة: ما جمعه من «صرامي». لم يتوقّف محمد يوماً عن جمع الأحذية القديمة واستخدامها للتدفئة وصدّ العوز، قبل «ارتفاع أسعار المحروقات في العالم» وقبل الأزمة الماليّة العالمية! وإن كان محمد استثناءً في بلدته طاريّا في ذلك الوقت، حيث لم يكن الأهالي، قبل 10 سنوات مثلاً، يحسبون للتدفئة حساباً، لأسباب كثيرة، لعل أهمها أسعار المحروقات التي لم تتعدَّ في حينها الحدّ المعقول، لكن الوضع اليوم اختلف. فمع الارتفاع الجنوني لسعر مادّة المازوت، التي يستخدمها أهالي البقاع في التدفئة بشكل كبير، تبدو العودة إلى تقنيّات البؤس التي اخترعها محمّد رياض قبل نحو 10 سنوات ممكنة، أو في بعض الأحيان ضرورية. هكذا بعد «صرامي» محمّد رياض، قد تسجل نجلاء حميّة «اختراعاً» آخر في مجال تدفئة الفقراء. فهي تدخل هذا الشتاء عامها الثالث في استعمال مادّة «زيوت السيّارات المستعملة» في التدفئة. انطلقت نجلاء في فكرتها، من «نار أسعار المحروقات من جهة، ومن وفرة هذه الزيوت في منزلنا من جهة أخرى»، لكونها باقية من استخدام عدة الآت زراعية. تتذكّر نجلاء أنّها في إحدى السهرات كان البرد قارساً، ولم يكن في إمكانها شراء المازوت لإشعال المدفأة، لأنّ الوقت كان متأخّراً جدّاً، فلم تجد أمامها خياراً سوى استعمال «الزيت المحروق»، الذي كان يستعين به شقيقها إبراهيم في سهراته. طوّرت نجلاء الفكرة في العام التالي، فباتت «خبيرة في التدفئة على الزيوت لأنه يخدم كثيراًَ»، كما تقول. فعمدت إلى صناعة مدفأة خاصّة، مكوّنة من «تنكة موصولة بقسطل من الحديد المثقوب من جميع الجهات، لتسريع عمليّة الإشعال والتهوية». أمّا تقنيّات إشعال المادّة، فأسهل ما يكون: «تعبئة التنكة بحوالى ليتر من الزيت المحروق وإشعالها بعود ثقاب، والاستمتاع بسهرة تطول خمس ساعات أحياناً». وأخيراً فكّرت نجلاء في تطوير مدفأتها «بحيث أوصيت صاحب أحد المحالّ التجاريّة على مدفأة من الحديد».
ولا تتوقف ابتكارات الفقراء التي تعيد «المجد» إلى وسائل قديمة. إذ ابتكرت أم وسام، أو بالأحرى أعادت اكتشاف التدفئة والطبخ على «روث البقر». فقد عمدت إلى وضع روث أبقارها في بئرٍ عميقة، وفي كلّ يوم تقوم بخضّ المادّة، التي يتولّد من حركتها تلك انبعاث غاز ما فتقوم بإشعاله وطهو الطعام. هذه التقنيّة التي بدأت في الصين، تحطّ في طاريّا هذا العام، لكنّها لا تقف عند هذه الحدود، حيث تقوم أم وسام، في بعض الأحيان بـ«تطبيع الزبل، وتنشيفه، ومن ثمّ استعماله في موقد التدفئة».
هذه بعض تقنيّات البؤس في طاريّا، لكن، ما لم يكن في الحسبان أنّ خدمات التدفئة، التي يصنّفها أهل البلدة مجانية، كادت تقتل في فترة سابقة مخترعها الأوّل: محمّد رياض، وقد تفعل ذلك الآن. هنا، يشير رئيس مؤسّسة خبراء حماية الصحّة والبيئة، ضومط كامل، إلى الخطر الذي تنتجه هذه الوسائل، حيث «تؤدّي الغازات الكيميائيّة المنبعثة من اشتعال الزيوت المستعملة والكاوتشوك إلى زيادة الإصابة بالسرطان وقتل المناعة في الجسم».


بين الجيب والصحة

لا يقف الاحتيال على الأزمة المادية للتدفئة بالعودة إلى الوسائل القديمة التي للأجداد الفضل في اختراعها، مثل روث البقر. إذ إنّ بعض الأهالي في منطقة البقاع، الباردة جدّاً، عمدوا إلى استخدام موادّ هي بالحقيقة قاتلة للصحّة، بدلاً من الجيب! وقد بدأت مادّة «الفحم الحجري» ومنذ أكثر من موسمين، تشقّ طريقها في عدد من القرى البقاعيّة، إضافةً إلى طاريّا، ومن هذه القرى الكرك والنبي شيت ورياق بعلبك ودورس وحورتعلا وكفردان وكفردبش وغيرها. ولئن كانت هذه المادّة غير مجّانية، كما الأحذية وروث البقر، فإنّها في رأي الكثير من الأهالي «أوفر من المازوت»، ولو كان على حساب صحتهم، إذ تبيّن بعض الدراسات أن التعرّض لمستويات عالية من مادة ثاني أوكسيد الكربون الموجودة في الفحم الحجري تؤدّي إلى أمراض كثيرة منها الربو وضيق الجهاز التنفّسي.