ناهض حتر *لاحقاً، قدم القائد الستاليني السوري، خالد بكداش، من موسكو، مدججاً بتأييدها الكامل، وقاد انقلاباً على توجهات مؤتمر زحلة، محدثاً أسوأ الأخطاء التأسيسية في حركة التحرر العربية، ألا وهي: 1ـــ الانشقاق بين التيار الشيوعي والتيار القومي، 2ـــ إبعاد الفئات الشعبية عن ممارسة تأثيرها على الحركة، وترسيخ التعامل معها كقاعدة مؤيدة، على طريقة السياسيين التقليديين، 3ـــ الخضوع لاستراتيجيات الكومنترن، وأسوأها التعاون مع الفرنسيين والإنكليز تحت شعار محاربة النازي، والقبول بالتهدئة خلال الحرب العالمية الثانية، والقبول بقرار تقسيم فلسطين. وبذلك تحوّل الشيوعيون العرب إلى قوة سياسية عصبوية. حوصر خياطة حتى اتهامه بالجنون. إلا أن روح زحلة لم تمت، وظلت حية في أفكار وممارسات مثقفين يساريين قاوموا الستالينية والسلطات معاً. نحتاج اليوم إلى عقد مؤتمر زحلة 2، ليس كلقاء تشاوري أو تنسيقي أو فولكلوري بين شيوعيي المشرق ويسارييه، بل كمحطة تاريخية لإطلاق مرجعية فكرية جديدة وديناميات نضالية جديدة تؤسسان للمرحلة الثانية من حركة التحرر العربية، في ضوء:
أولاً، الاعتراف بفوات أفكار حركة التحرر العربية القديمة، بل الميتة، وأحزابها. لم يعد لدى الشيوعيين والبعثيين والقوميين والقوميين المتمركسين ما يقدمونه للمرحلة الجديدة من تاريخ بلادنا. فهناك فراغ فكري وسياسي غير مسبوق تبرز في فضائه ممارسات فكرية فردية. لكن ما نحن بحاجة إليه هو تأسيس مرجعية فكرية سياسية جديدة تسمح بولادة أحزاب ومراكز ومنابر إعلامية وثقافية، وتحرك الفئات الشعبية نحو التفكير والعمل وإعادة تأسيس منظماتها في أشكال تنظيمية مستحدثة، شرطها إحداث التغيير في مجتمعاتها. ما الفائدة من إلحاح الشيوعيين التقليديين العرب على التمسك الكاريكاتوري بأسماء أحزابهم وبناها القديمة؟ إنه نوع من الصنمية لا شكّ.
ثانياً، أزمة الرأسمالية الليبرالية المنفجرة المتصاعدة في سياق عولمي تضرب، وسوف تخلخل كل النظام الرأسمالي في المراكز والأطراف. العالم يعيش عشية لحظة ثورية، ما زالت القوى العربية المعنية بها غير مستعدة للتساوق معها. فقدت الرأسمالية في ساعات ليس فقط تريليونات الدولارات، بل أيضاً صدقيتها وتأثيرها الفكري الذي كان حتى الأمس القريب مسيطراً حتى على فكر مقاوم كبير مثل السيد حسن نصر الله الذي دعا، على خلفية المصالحة اللبنانية، إلى التعايش مجدداً بين نهجي المقاومة و«البزنس».
ذلك التعايش لم يعد ممكناً. ولكن اليسار، لا حزب الله، هو مَن يستطيع كشف الصلات بين البزنس والاستعمار الأميركي والصهيونية. وهو كشف لا غنى عنه للتحرر والتقدم الاجتماعي. الأزمة الرأسمالية المعولمة لا منجاة منها في البلدان التابعة، حيث سنشهد عما قريب انفجاراً محلياً للأزمات الاقتصادية الاجتماعية في منطقتنا. بأيّة أسلحة سنواجه تلك الأزمات؟ بقائمة مطلبية أم بالعودة إلى تمجيد «اللغة الخشبية»؟ أم بات ضرورياً الهجوم المضاد بأفكار ووسائل جديدة، أعني هجوماً إيديولوجياً شاملاً على الرأسمالية والليبرالية والسلفية والقومجية وكل القوى القديمة الفائتة.
ثالثاً، أزمة النظام العربي، نظام الموالاة والمعارضة، نظام التعاون، مع الغرب، والممانعة، أصبحت تهدد الوجود العربي في مظاهرها الأكثر إجرامية: الإفقار المستنزف للشعوب، والموت المجاني، والسلفية، والانشقاق السني ـــ الشيعي، وما ينمو على هامشه من انشقاقات طائفية وإثنية وجهوية.
لا نتوقع من القوى الطائفية، حتى تلك التي تقبع في صلب المقاومة، سواء في العراق أو لبنان أو فلسطين، شيئاً لتجاوز الإفقار المميت والسلفية والانشقاقات المذهبية والطائفية والإثنية، أكثر من «المصالحات» الهشة.
كذلك، فإن القوى الليبرالية المتعددة الأشكال لا تستطيع أن تقدم حلاً. فهي أساس آليات الإفقار. وهي إما متغربة ثقافياً أو متغربة سياسياً، أي موالية للاستعمار أو حتى ضالعة في آليات الانشقاق المذهبي، تمشية لمصالحها.
اليسار وحده هو المؤهل لتطوير ثقافة مدنية تأخذ بالاعتبار الخصوصية الإسلامية، وتربط بين الدولة والاستقلال والمقاومة والعدالة الاجتماعية. وسيكون على اليسار العربي أن يشن حملتين متوازيتين ضد الإفقار والتجويع والموت، ولبلورة نظرية جديدة ديموقراطية في العروبة وترويجها، تعترف بالمكوّنات الطائفية والمذهبية والإثنية والخصوصيات المحلية في إطار رابطة عربية مدنية تنبذ الأفكار العنصرية للنظريات القومية الغربية التي تقوم على «التماثل» و«الشعب العضوي». رابعاً، أزمة دول الخليج، وأزمة المشرق بدول الخليج. وهما أزمتان متجادلتان لا بد من حلهما. وكان صدام حسين قد واجه هاتين الأزمتين بصورة قلقة ملتبسة في حربين مدمرتين في الخليج كلفتا العراق في الأخير تقدمه واستقلاله.
لكن معنى تينك الحربين لا يزال قائماً. فعلى الرغم من ثرائه بالنفط والبترودولار، بل بسبب ذلك الثراء غير المتساوق مع تطور سياسي اجتماعي مرافق، ظل الخليج وما يزال عاجزاً عن التقدم الاجتماعي والسياسي حتى بالمقارنة مع بلدان (فقيرة) كسوريا والأردن ولبنان، حيث يمكن تحويل القليل من الثروة إلى منجزات ملموسة بسبب التطور الاجتماعي النسبي.
الخليج، بثرواته ومشترياته الضخمة من الأسلحة الحديثة، لم يستطع توفير الحماية لنفسه من الجيران. وهو ما دعا عراق صدام حسين إلى تولي المهمة ضد إيران، كدور استراتيجي لبغداد. ثم عاقب الخليج الرافض لذلك الدور، ليس فقط بحكم التبعية للاستعمار، بل أيضاً بحكم القصور السياسي الداخلي، بغزو الكويت. لقد فضّل الخليج حماية أميركية صريحة، ليس بسبب توازن القوى فحسب، بل لأن الحماية الأميركية ليس من شأنها أن تمارس تأثيراً تقدمياً في الداخل كما هي حال الحماية العراقية التي شجعت الاتجاهات العروبية والعلمانية في الخليج في الثمانينيات.
خسر الخليجيون 155 مليار دولار في ساعات من انهيار الأسواق المالية الأميركية. وهي ثروة كفيلة بإحداث ثورة تنموية في المشرق الذي يكتوي على مسافة قصيرة من آبار البترول من هول فاتورة الطاقة التي تشل قدراته وتفقره. والمشكلة الجوهرية هي أن الخليج عاجز، ببناه الحالية ـــ وهي هجين من الأبوية العشائرية والسلفية والليبرالية الرأسمالية ـــ عن إحداث اختراق تنموي، وبالتالي سياسي وثقافي في بلدانه ذاتها، بينما اليسير من فائض الثروة الخليجية الذي يأتي إلى دول المشرق الأكثر تقدماً، يأتي على شكل مساعدات محدودة للأنظمة والقوى المسيطرة، وهي مشروطة سياسياً بمعرفة واشنطن. فالمال الخليجي، كالمال الإيراني ـــ على رغم التضاد السياسي بينهما ـــ يعيدان إنتاج التخلف الاجتماعي والسلفية والانشقاق المذهبي. أو أنه يأتي على شكل «استثمارات» في القطاعين العقاري والمالي تؤدي إلى تكريس التخلف وضرب الصناعة والزراعة، وإطلاق ديناميات التضخم، وبالتالي المزيد من البطالة والإفقار.
مسألة تحرير العراق واستعادته كقاطرة تقدمية للمشرق تقع في صلب حل هاتين الأزمتين. ولذلك فإن المقاومة العراقية هي في القلب من مهمات اليسار العربي الغائب جراء التاثيرات الخليجية والإيرانية. على اليسار العربي أن يتحرّر من هذه القيود، ويبادر إلى إطلاق حركات تحررية في الخليج، لا غنى عنها من أجل انتصار الحركة التحررية في المشرق كله.
* كاتب وصحافي أردني