معمر عطوي *بهذا المعنى، يملك كل مذهب من المذاهب الإسلاميّة فكرة القضاء على المذهب الآخر، إن لم يكن عاجلاً فآجلاً، انطلاقاً من قاعدة شرعية تفرض مقاتلة الضالّين من المسلمين ومحاربتهم حتى يعودوا إلى «الصراط المستقيم».
وفي أدبيات كلا المذهبين كمّ هائل من مسوّّغات التكفير والاتهام بالشرك والضلالة والابتداع. مسوّغات وصلت إلى ذروتها مع الحركات التكفيرية في العراق وباكستان وأفغانستان، حيث يُقتل العشرات وتُرتكب أبشع عمليات التهجير على طريقة الفرز العنصري.
ما جاء به القرضاوي، ما هو إلّا بوح بالمسكوت عنه في الخطاب الديني، وإطلاق لما هو مفكّر فيه وما هو غير مفكّر فيه، أي ما تقتضيه الغرائز العصبية القبائلية.
هو جزء من معادلة قائمة منذ مئات السنين بين «روافض» و«نواصب»: الفئة الأولى هم الشيعة وسمّوا بالروافض أو الرافضة لرفضهم خلافة بعض الصحابة. أمّا الفئة الثانية فهم أهل السنّة، وسمّوا بالنواصب «لأنهم ناصبوا العداء لأهل البيت». وفي هذا الاتهام تجنّّ على أهل السنّة لأنهم لا يعادون أحداً من أهل البيت. بل يغالون في حب الصحابة وتقديسهم، فيما يغالي الشيعة بحب أهل البيت لدرجة تصل إلى تأليف الأساطير عن قدراتهم الخارقة.
من هنا يتكوّن لدى أصحاب العمائم عند المذهبين كم هائل من مسوّغات الاتهام والتكفير، لدرجة أن الدروس الدينية وحلقات العلم المُغلقة في المساجد والحوزات، متخمة بتعابير السخرية من الآخر وجعله في مرتبة دونية.
لعلّ ما أطلقه القرضاوي من مخاوف، هو مردود إلى صاحبه على اعتبار أن هذا الهاجس الذي يقضّ مضجع بعض علماء الدين، والذي يغذّيه السياسيون بالدعم المالي والإعلامي والتغطية السياسية والأمنية، هو هاجس الجميع: هاجس الشيعة تجاه الحكومات السنيّة، باضطهادهم، الذي بدأ منذ خلافة الأمويين وصولاً حتى مملكات آل سعود في الجزيرة العربية، وهاجس المسيحيين تجاه الخلافة الإسلامية، من جعلهم أهل ذمّة، وهاجس الدروز والعلويين والصابئة والنصيرية وغيرها، من تحويلهم إلى فئة مستهدفة في كيانات إسلامية تسيطر عليها حركات التكفير. مما لا شك فيه، أن ما جاء به الشيخ القرضاوي، وهو أحد أهم العناصر الفاعلة في المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية، هو تعبير واضح عما هو مسكوت عنه في الخطاب الإعلامي الديني وما هو متداول بين المشايخ والمريدين والمقلّدين، وما هو سائد وسط شرائح المجتمع المتأثرة بأدبيات المساجد.
من هنا، تصبح كل منظّمات الوحدة والتقريب بين المذاهب، كيانات تستهلك المال والوقت والجهود، من دون أن تؤسّس مدماكاً واحداً يحل بعض القضايا الخلافية بين المذهبين. جهود كبيرة تبذل ونقود كثيرة تُصرف، تحت شعار الوحدة «إنما المؤمنون إخوة» (الحجرات) والقضاء على الفتنة، بهدف التفرّغ للأولويات، مثل محاربة الصهيونية والاستكبار العالمي، لكن من دون جدوى.
سلسلة من دعوات الغداء والعشاء والمؤتمرات الباهظة الثمن في طهران أو الرياض أو الدوحة، تبدأ بتقبيل الجبين وتبويس اللحى والتكاذب باستخدام بعض الآيات: «واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا»، «وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُم» (آل عمران). وتنتهي في شوارع بيروت أو بغداد ولاهور وكراتشي، بمجازر جماعية وإحراق بيوت وترحيل قسري تحت شعارات جديدة، إذ استبدلت كلمة «الرافضة» بـ«الصفوية» و«الناصبة» بالأمويين.
لعلّ هواجس القرضاوي تكون مشروعة، أمام ما يفكّر به هو نفسه. لأن الخوف من الآخر أحياناً ينطلق من فهم عميق للذات ونواياها الدفينة. ولأن الحديث عن التقريب بين المذاهب في إطار «أولويات الأمة»، يعني أن «المابعديات»، هي تصفية الحسابات بين الجانبين؛ طبعاً الحديث عن تصفية الحساب المؤجّل، مدوّن في الكتب الصفراء التي تزخر بها مكتبات الإسلاميين، التي تتحدث عن «مستقبل الأمة الإسلامية». إذ تتضمن هذه الكتب كل ما يصبّ في عملية تعزيز الفرز المذهبي بين فئة «ناجية» وأخرى «ضالّة» أو «مبتدعة»، والأحاديث النبوية التي تتحدث عن ذلك كثيرة، منها الصحيح ومنها الضعيف ومنها الإسرائيلي.
بأي حال، إذا كان هناك من خطر تشييع في البلدان «السنيّة»، فيمكن مواجهته بالفكر والمنطق والحوار ومقارعة الحجة بالحجة، لا بإطلاق الاتهامات وتعويم «فوبيا التشيّع» في وسائل الإعلام. فكما تزخر دور النشر والمعارض بكتب سبّ السنّة والنيل من صحابة الرسول، هناك الكتب التي تسبّ الشيعة وتكفّرهم وتحطّ من قدر علمائهم.
أمام هذه التراجيديا التاريخية المتجددة بلغة غرائزية، ليس أمام أصحاب العقول النيرة من كلا الجانبين سوى العودة الى الآية القرآنية «تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ»(البقرة). وما عدا ذلك هو خلاف سياسي محض لا يجوز لا شرعاً ولا أخلاقاً زج الدين في أتونه.
* من أسرة الأخبار