قاسم عز الدين *كأني بهم رحلوا في غيبة بعيدة، أو كأنهم فقدوا توازنهم لا يصدقون ما يسمعون. لاذوا بالفرار كأن في فمهم ماءً. هم النيوليبراليون العرب الذين «برْتَعوا» لعقدين. كنت تراهم يملأون الشاشات والصحف من دون استئذان، أو يتجوّل أحدهم منفوخاً في المقاهي، كبدوي متأنّق بربطة العنق، على قول جليل المشايخ عبد الله العلايلي، فإذا به اليوم منكسر الخاطر، مرتبك، أين منه ارتباك أولمرت بعد هزيمة جيشه في عدوان تموز.
بالأمس ظهر أحد كبار شيوخ طريقتهم، وهو، والحق يقال، أعلمهم بسطرين، فكتب مقالته المعتادة، إنما أقل تبجّحاً واستفزازاً، وهي لا ريب تنمّ عن موهبة فطرية، لكنها بلدية خام. فعاد القول إنّ «تدخّل الدولة» في الاقتصاد أعاد الأمور إلى نصابها، أو يكاد. وعليه يؤسّس هذا القول الفطين إلى عودة النيوليبراليين العرب، وتجديد شبابهم، بإطناب الرأسمالية المتجددة والمجدّدة لنفسها. ولا شك في أننا سنتحمّل سماجتهم بعد الآن، يلقون على الناس مقطوعة الاستظهار من الصفوف الابتدائية.
أنْ تجدّد الرأسمالية نفسها، فذاك ليس كشفاً، إنما الكشف هو في معرفة على حساب مَن ولمصلحة مَن. ولن نذهب في هذا المنطق النقدي إلى الصراع الطبقي، معاذ الله! إنما نبقى في حدود منطق «الرأسمالية العقلانية»، الكينزيّة مثلاً أو الفابية أو حتى الرأسمالية الاجتماعية الألمانية، يا أخي!
عام 1933 وصف عالِم الاقتصاد الأميركي إيرفينغ فيشر أسباب الانكماش بأنه نتاج حرية الرأسمال الكبير على حساب القطاعات الصغيرة، وخلُصَ إلى ضرورة إعاقة هذه الحرية، بتدخّل الدولة، في الداخل الأميركي، وإطلاق العنان له في «الحديقة الخلفية» للولايات المتحدة. وعموماً لجأت الدول الصناعية إلى وضع العقبات أمام حرية الرأسمال الكبير في مجتمعاتها، ولكنها دعمته بالاقتصاد والسياسة والثقافة والحرب... في «الحدائق الخلفية»، وفي المحصّلة جدّدت الرأسمالية نفسها لمصلحة قوى وفئات وعلى حساب شعوب بأكملها، فالرأسمالية تجدّد نفسها، على خطّين متوازيين، يكمّل أحدهما الآخر، وهي لا ريب تحتاج إلى مبشّرين عور يرون بعين واحدة «تجديد شباب الرأسمالية».
لا تجدّد الرأسمالية النيوليبرالية نفسها اليوم. فقد ضاقت الحدائق خلفها إلى حدّ بعيد، بل نشأ في هذه الحدائق منافسون جدد (من الصين إلى سنغافورة)، ونشأ أيضاً مقارعون جدد قادرون على ردع التوسّع الأبيض (أميركا الجنوبية). والأدهى أن النيوليبراليين لا يسعهم حل الأزمة الرأسمالية عبر إعاقة حرية الرأسمال في مجتمعات الدول الصناعية، بل على العكس، يحاولون تجديد الرأسمالية بمزيد من حرية الرأسمال على حساب القطاع الخاص الصغير، وعلى حساب مداخيل الأجراء والعاملين، والثروة العامة، (سندات الخزينة، الصناديق السيادية، صناديق التقاعد والضمان الاجتماعي والصحي...).
قد ينجح «المنقذون الجدد» «في إعادة الثقة للأسواق المالية»، لكن أزمة الكتلة النقدية الهائلة، وهي عبارة عن تراكم الرأسمال الكبير، تظل كاملة، بل باتت أكثر تأزّماً وتعقيداً. لقد تبخّر منها حوالى 50 تريليون دولار، وما زال حجمها الافتراضي يقدّر بنحو 430 تريليون دولار، بينما لا يتجاوز الناتج العالمي 105 تريليونات دولار، هذا إذا أضفنا إليها الصناديق السيادية (تقدّر بحوالى 45 تريليوناً، منها 25 تريليوناً في الولايات المتحدة). فهذه الكتلة النقدية الهائلة هي مجرد كتلة من ورق إذا لم تُستثمر بصفتها رأسمالاً مدراً للأرباح، والسؤال هو: أين، وكيف، وهل يمكن توظيفها في الثروة البشرية والبيئة والأمن الغذائي والخدمات الاجتماعية... أم في قطاعات الربح الأقصى والسريع؟
ما أدى إلى الأزمة الحالية هو الجواب النيوليبرالي في توظيف الرأسمال في القطاع المالي، وقد نجح، لكن نجاحه أدى إلى الانفجار. ولم ينجح توظيف الرأسمال كفاية، كما أراد النيوليبراليون، في الخدمات الاجتماعية التي قام عليها دور الدولة، على الرغم من أن الدولة «حرّرت» هذه القطاعات وسهّلت مرور الرأسمال إليها.
ولم ينجح توظيف الرأسمال الكبير في استثمار عائدات الحروب والعسكرة وأيضاً في الإعلام ومراكز الأبحاث والتبشير «الحضاري»، بل ارتدّ توظيف الرأسمال وبالاً على الرأسمال. فالنيوليبرالية حاولت حل أزمة النظام الرأسمالي في البحث عن أسواق للاستثمار ولم تجد أمامها «أسواقاً طبيعية»، فالتجأت إلى تحويل المشتقات والقطاعات الاجتماعية والحروب والعسكرة... ولم يفلح كل ذلك بتجديد الرأسمالية بل زادت الأزمة تعقيداً. ولم يقدم النيوليبراليون أي جواب حتى اليوم لحل هذه الأزمة، ولعلهم يعتمدون على ذكاء النيوليبراليين العرب.
قد يكون الكذب أحد الأجوبة الناجحة. وقد بدأوا به، ولعل هناك مَن يصدق الكذب أو يرغب بتصديقه. قال الرئيس الفرنسي إنه بصدد «إعادة تأسيس الرأسمالية» وأجمع الآخرون على «تدخل الدولة»، حتى وصف أحدهم هذا التدخل بـ«اشتراكية الأغنياء»، قالوا بالتأميم، ثم الشفافية، والرقابة، وأخيراً «وضع الضوابط»... وعدا كلمة «تدخل الدولة» و«التأميم»، سمعنا منذ عام 2002 كل العبارات المطمئنة الأخرى، وبالعنجهية نفسها التي حملها النيوليبراليون العرب.
وزيادة في الاطمئنان صدر في الولايات المتحدة قانون «سابراينس ـــ أوكسلي» لمراقبة الحسابات، وفي فرنسا صدر تقرير «دانيال بوتون»، وأشاع الاتحاد الأوروبي الاطمئنان التام إلى الشفافية والمراقبة والمحاسبة والضوابط.
ثم الآن عود على بدء وذلك لسبب بسيط: كان الرأسمال يراقب الرأسمال، وما زال. وكان معيار الشفافية الربح الأقصى وما زال، والقاعدة «العقائدية» هي حرية الرأسمال الكبير، وحرية الأسواق، كانت وما زالت، وكان الفاسدون في السلطة والقرار وما زالوا.
وماذا عن «تدخل الدولة» و«التأميم» و«اشتراكية الأغنياء»؟... أكذبٌ هو؟ إنه أكذب الكذب وأفجره. فالدولة المعنيّة تدخلت منذ عام 82 لقوننة القرصنة. ولم يكن بيد الرأسمال وحده أن يُحدث كل هذا الخراب لولا تدخل الدولة لمساعدته وحمايته. وهي اليوم تتدخل، مثلما تدخلت سابقاً، لتجديد شبابه بالحرية والسيادة والاستقلال، إنما على حساب الثروة العامة، والتعويض على المسؤولين عن الفساد والديون الملوّثة، بدل محاسبتهم وإقفال الكازينو. فتدخّل الدولة، هو عادة مسؤولية وواجب، إنما لإعاقة حرية الرأسمال الكبير والحد من استقلاله وسيادته على القطاعات الإنتاجية الصغرى والمتوسطة. ولعلّها المرة الأولى التي يُتَداوَل فيها «التأميم» مقلوباً بمعنى التعويض على القراصنة والفاسدين «الجشعين»، من الثروة العامة.
* كاتب لبناني