عثمان تزغارت
عام كامل مرّ، وها هو عبد اللطيف قشيش جالس في الركن المنزوي ذاته، على الشرفة الخارجية لمقهى فندق Excelsior، أحد الفنادق الفخمة التي يؤمّها روّاد «مهرجان البندقية»، في شبه جزيرة الليدو التي يُقام فيها المهرجان السينمائي الشهير. قبل سنة، كان قشيش هنا على الشرفة ذاتها، وحوله فريق فيلمه «أسرار الكسكس»، وحولهم التلفزيونات وعشرات الصحافيين، بعد الحفاوة النقدية الكبيرة التي استُقبل بها الفيلم، إذ صفّق له جمهور «البندقية ــــ 2007» طويلاً ونال بعد ذلك «جائزة لجنة التحكيم الخاصة».
عاد قشيش إلى «البندقية» (فينيسيا) هذا الصيف، لكن هذه المرّة ليرأس لجنة التحكيم الخاصة بالأعمال السينمائية الأولى. ولا شك في أنّه هناك، على شرفة الـ«إكسلسيور»، بهيئته المتواضعة الخجولة، ونظّارتيه اللتين تجعلانه أقرب إلى أستاذ جامعي منه إلى أحد أبرز نجوم «السينما الجديدة» في فرنسا، يستمتع باستعادة شريط الذكريات. لجنة التحكيم التي ترأّسها هذا العام هي التي منحته أول مكافأة سينمائية لفتت إليه الأنظار، حين قدِم إلى هنا لأول مرة عام 2000، بباكورته «الحق على فولتير».
لم تكن «البندقية» سوى البداية، فقد توالت لاحقاً الجوائز والمكافآت، لتكرّس مكانة قشيش، وتجعله في مصاف كبار صنّاع السينما العالمية في أقل من ثماني سنوات، ومن خلال ثلاثة أفلام، لا غير! فيلمه الثاني «المراوغة» (2003) حصد خمس جوائز «سيزار»، المعادل الفرنسي للأوسكار. أما عمله الثالث «أسرار الكسكس» (2007)، فنال ثلاث جوائز في مهرجان «البندقية ـــ 2007» ثم عاد وحصد أربع جوائز «سيزار ـــ 2008» بينها أفضل فيلم. لكن... من هو حقّاً هذا السينمائي التونسي/ الفرنسيّ الذي تحتفي به بيروت هذه الأيام، إذ يحلّ ضيف شرف على «أيّام بيروت السينمائيّة» حيث تعرض ثلاثيّته، ويقدّم محاضرة ويدير ورشة عمل (راجع التفاصيل أدناه).
بدأ قشيش ممثلاً في منتصف الثمانينيات، وظهر بأدوار صغيرة في عدد من الأفلام، بينها «شاي بالنعناع» لعبد الكريم بهلول و«صمت مطبق» لفيليب عيّاش. وحصل على أول دور بارز في «الأبرياء» لأندريه تيشينيه. كان ذلك قبل أربع سنوات من دور البطولة في فيلم شهير للتونسي نوري بوزيد بعنوان «بزناس». وبخلاف كثيرين، لم يعتزل قشيش التمثيل، بعد الشهرة العالمية التي حصل عليها كمخرج. بل استمر في تقديم أدوار متنوعة يختارها بعناية. فبعد «مصاص دماء في الجنة» لعبد الكريم بهلول (1991)، مثّل تحت إدارة بياتريس بلوميه في «المطرقة الحمراء» (1996)، ثم تحت إدارة مواطنه رضا الباهي في «صندوق العجب» (2002)، وأخيراً في فيلم Sorry Haters لجيف ستانزلر (2007).
وفي الحقيقة لم يكن الذين اكتشفوه في «بزناس» (1991)، يتصوّرون أن هذا الشاب المنغلق والخجول سيصبح بعد سنوات أحد أبرز السينمائيين، لا في بلده الأصلي تونس فحسب، بل أيضا في فرنسا حيث وُلد وتربّى. فقد قال عنه كلود بيري، أكبر منتج سينمائي في فرنسا، خلال حفلة «جوائز سيزار» الأخيرة: «منذ رحيل موريس بيالا («السعفة الذهبية» عن «تحت سماء الشيطان» ـــ 1987)، لم نشهد في السينما الفرنسية مخرجاً بمثل هذا النفس الملحمي!».
شكّل فيلم «أسرار الكسكس» الذي يعدّ أول عمل ينجزه قشيش بميزانية كبيرة (6 ملايين يورو، مقابل 500 ألف يورو فقط لـ«المراوغة»)، حلماً قديماً ظلّ يراوده مذ دخل المجال الفني، وهو في الثالثة والعشرين. في أحد مشاهد باكورته «الحق على فولتير» تتبادل شخوصه تذاكر سينمائية لمشاهدة فيلم يحمل عنوان La Graine et le Mulet، لكن قلّة انتبهت آنذاك إلى أنّ هذا العنوان يتضمن تلاعباً بالكلمات والرموز، بحيث لا يعني «البذرة والبغل» (حسب الترجمة الحرفيّة)، بل إن البذرة هنا هي الكسكس، و«الموليه» (أي البغل) نوع من السمك. «كسكسي بالسمك» طبق معروف في تونس والمغرب العربي... وصارت الترجمة العربيّة المعتمدة بعد إنجاز فيلمه الأخير هي «أسرار الكسكس». تنبغي مشاهدة الفيلم (الآن في بيروت) لفهم تلك المعادلة!
يقول قشيش: «نقطة الانطلاق في مشروع «أسرار الكسكس» كانت رغبتي في إعادة الاعتبار إلى جيل من المهاجرين، هو جيل والدي... جيل الآباء الذين وصلوا إلى فرنسا في عقد الستينيات، ليعيدوا بناء حياتهم هنا، وضحّوا بكل شيء ليحظى أبناؤهم بحياة أفضل. لاحقاً تطوّر المشروع إلى فيلم يتحدّث عن جالية بأكملها، وعن الوسط الاجتماعي الذي يضمّ سكان أحياء الضواحي في فرنسا. لكنني احتفظت بالفكرة الأصلية المتمثلة في تضمين قصّة والدي. كانت لديّ رغبة لا تقاوم بأن أجعل منه بطلاً سينمائياً».
هذا الاحتفاء بالأب لا يعني الانتقاص من الحضور النسائي. ميّزة سينما قشيش أن شخوصها النسوية هي الأقوى تدير دوماً دفّة الأحداث. يقول: «ربما كان سبب ذلك أنّني نشأتُ في محيط عائلي واجتماعي فيه العديد من النساء ذوات الشخصية القوية. أردت أيضاً أن أتخلّص من الفكرة الفرنسيّة الجاهزة عن النساء العربيات في أوساط الهجرة المغاربية، بوصفهنّ خاضعات لبطش الأزواج أو الآباء أو الإخوة الذكور».
من سمات سينما قشيش أيضاً أنّ أحداثها تدور في فضاءات مغلقة. وتلك من تأثيرات المسرح الذي شهد بداياته كممثل هاوٍ. فأوّل دور تقمّصه، وهو في الثالثة والعشرين، كان في عمل مسرحي مقتبس عن نصّ للوركا قدّمه ضمن فرقة من الهواة في نيس: «نعم. للمسرح تأثير وحضور دائمان في أفلامي. في «الحق على فولتير»، اخترتُ ذلك البار الذي شكّل الفضاء المركزي للفيلم، لأنّ ديكوره كان يشبه خشبة المسرح. وهناك إحالات دائمة إلى عوالم المسرح في أفلامي، المسرح هو الذي كوّنني وصاغ شخصيتي الفنية. وقد مضيتُ بهذا المنحى إلى أبعد الحدود في «أسرار الكسكس»، حيث كانت تأثيرات المسرح واضحة في العديد من مشاهد الغناء والرقص، فضلاً عن أنني جعلتُ من المركب/ المطعم فضاءً أشبه بالركح المسرحي الذي تدور على خشبته أبرز أحداث الفيلم».
ويمضي عبد اللطيف في شرح نظريّته التي سيتسنّى له تفصيلها هذه الأيام في بيروت: «أشعر دوماً بأنّ المسرح بفعل تقنياته المختلفة عن السينما، وطريقة التمرين والأداء المغايرة، والصلات الوثيقة التي يسمح بنشأتها بين الممثّلين، هو الفنّ الأكثر قدرة على أن يضاهي الحياة الفعلية والإمساك بما تختزنه من صدق وعفوية وحرارة إنسانية. وحين يتحقق ذلك في السينما، فإن الأمر يكون رائعاً وساحراً، بل معجزة».
عن مشاريعه المستقبلية، يقول: «في أفلامي الثلاثة الأولى، كنتُ مُلزماً بتأدية نوع من الواجب الفكري والأخلاقي تجاه الوسط الاجتماعي الذي جئتُ منه. لكنني الآن أتطلّع إلى تحقيق فيلم يشكّل نوعاً من القطيعة مع ما قدّمته. أريدُ أن أترك لسينمائيين آخرين مواصلة المرافعة في قضايا الجاليات المهاجرة في فرنسا. أما أنا، فأرغب الآن في تطوير تجربتي وتجديد أدواتي الفنية... لكن ضمن الامتداد الطبيعي للشخصية السينمائية التي اكتسبتها من خلال تلك الثلاثيّة».
أفلام قشيش تنتمي إلى «سينما المؤلف» الفرنسية التي تخرّج من رحمها كممثل. إلا أنّ أعماله تتضمّن دوماً سمات أسلوبية خاصة، أبرزها قدرته على الغرف من عوالم المسحوقين والمهمّشين. لذا كان طبيعياً، بل بديهياً أن يكون العمل المقبل الذي يستعدّ لإخراجه فيلماً مقتبساً من رواية فيكتور هوغو الأشهر «البؤساء»!
....................................................................................................................
ضمن مهرجان «أيام بيروت السينمائية» (صوفيل)، يُعرض اليوم «أسرار الكسكس» (7:30 مساء)، ويعاد عرضه غداً (التاسعة مساء)، قبل «الحق على فولتير» (10 مساءً). كذلك يقدّم عبد اللطيف قشيش عند الساعة 11 من قبل ظهر غد (الخميس) ندوة عن «التمثيل في السينما» (مسرح «بيريت»، جامعة القديس يوسف)


5 تواريخ

1960
الولادة في تونس. في السادسة هاجر مع عائلته إلى مدينة نيس الفرنسيّة

1984
أول ظهور سينمائي له كممثّل في «شاي بالنعناع» لعبد الكريم بهلول

2000
«الأسد الذهبي» للفيلم الأول في «البندقية» عن باكورته «الحقّ على فولتير».

2005
أربع جوائز «سيزار» في فرنسا عن فيلمه الثاني «المراوغة»

2008
أربع جوائز «سيزار» عن آخر أعماله «أسرار الكسكس»، وكان الفيلم نفسه قد فاز العام الماضي بـ«جائزة لجنة التحكيم» في «البندقية»