علاء اللامي *تكرّس، أو يكاد، شعار معلن يلخص علاقة الدول العربية، أو أغلبها إن شئنا الدقة، بالحكم القائم في بغداد المحتلة، نصه المضمر هو «النفط مقابل السفارات». لم يعد سراً مضمون الصفقات التي جرت بموجبها إعادة افتتاح عدد من السفارات العربية في بغداد من أجل الحصول على النفط شبه المجاني، أو حسب العبارة المتكررة في البيانات الرسمية «النفط بأسعار تفضيلية».
زيارة وزير الخارجية المصرية أحمد أبو الغيط إلى بغداد أخيراً أعطت هذا الشعار صفته ومضمونه الحقيقيين. فالدول العربية، وبخاصة تلك الدائرة في الفلك الغربي والأميركي، تعرضت طوال سنوات الاحتلال وإقامة نظام حكم المحاصصة الطائفية العرقية في بغداد لضغوط أميركية متواصلة وثقيلة هدفت إلى كسر العزلة العربية والإقليمية عن الحكم ومنحه الشرعية الدبلوماسية اللازمة كمقدمة لتسويقه دولياً. ثم، بعدما نجح الحكم نجاحاً جزئياً وهشّاً في الخروج من حالة التآكل والحصار الأمني والسياسي داخلياً، وجدت تلك الدول نفسها في سباق لتطبيع علاقتها به، ولكن ليس من أجل سواد عيني كوندوليزا رايس فقط، بل للحصول على ما تيسر من المكاسب المادية الممكنة.
وبما أن المكاسب الممكنة والوحيدة التي يمكن أن يجود بها الحكم العراقي بموافقة الاحتلال هي النفط والغاز، المنهوبين علناً والمصدّرين تحت إشراف الاحتلال من دون عدّادات تحتسب الكميات المشحونة، فقد «تكرّمت» حكومة المالكي على عدد من الدول العربية وتحديداً منها الأردن ولبنان ومصر، بأسعار تفضيلية، إضافة إلى تسهيلات أخرى في هذا الميدان.
ويبدو أن مواصلة اعتماد هذه الاستراتيجية قد أثارت سخط بعض حلفاء رئيس الحكومة نوري المالكي في الحكم. فقد أدلى محمود عثمان، القيادي البارز في التحالف الكردستاني، بتصريحات حادة حتى قبل أن يعود أبو الغيط إلى بلده، قال فيها إنّ الأخير ما جاء إلا من أجل الحصول على النفط بأسعار تفضيلية.
وما قاله عثمان لا يأتي بأي جديد إخباري ولكنه يحمل دلالة الامتعاض، وربما نفاد الصبر، من تطبيق تلك الاستراتيجية، وخصوصاً أنّ الأكراد (الذين حازوا منذ عهد الحاكم الأميركي الثاني للعراق، بول بريمر، ما نسبته 17 في المئة من عائدات النفط والغاز)، يحاولون الحفاظ على هذه النسبة.
ومع أن أطرافاً سياسية في الحكم قد اعترضت عليها، وطالبت بخفضها لتتناسب مع النسبة السكانية للأكراد، التي تراوح بين 12 إلى 14 في المئة، فإن المايسترو المتحكم في اللعبة (الاحتلال)، قد أوعز كما تقول بعض المصادر بأن يبقى كل شيء على ما هو عليه في هذا الصدد تحديداً! القادة الأكراد اعترفوا مداورة بعدم عدالة نسبة الـ17 % ، ولكنهم اعتبروا الفرق مجرد تعويض عما سمّوه «المظلومية الكردية» في عهد النظام السابق! فلنتصوّر فقط أي معنى ستحمله المظلومية حين تعبأ بمضامين إثنية وأخرى طائفية.
يمكن اعتبار اعتماد استراتيجية «النفط مقابل السفارات» اعترافاً صريحاً بإفلاس الجميع وبموت ما كان يسمّى ذات يوم «التضامن العربي». فالدول العربية التي سكتت وتفرّج بعضها على ما حلَّ بالشعب العراقي من مصائب، وتواطأ بعضها الآخر مع المحتلين، تتعامل اليوم مع الحكم القائم في بغداد من منطق تبادل الخدمات ليس إلا، أي هات وخذ. أما الحكم، فليس بحاجة إلى من يؤكد إفلاسه وفقدانه الشرعية والشعبية، رغم كل الدفق الإعلامي والمالي الذي يصب لمصلحته. وليس اعتماده شعار «النفط مقابل السفارات» إلا مسماراً أخيراً في وجوده الهش والمفعم بالكوارث والتناقضات، وإعلاناً مدوياً عن ذلك الإفلاس.
القوى والشخصيات العراقية المناهضة للاحتلال تابعت هذا الحدث طبعاً، ولكن ردود أفعالها لم تخرج عن نطاق اللوم والعتب، وفي حالات قليلة بلغت حد النقد الشديد والاتهام بخذلان الشعب العراقي. غير أن الأمر بقي عند هذا الحد ولم يتطور إلى إطلاق حملة إعلامية وسياسية مضادة تحدّ من هذه الهرولة نحو نفط بغداد على حساب معاناة الشعب في ظل الاحتلال والحكومة المتحالفة معه، وسياساتها التي بلغت منعطفا إبادياً خطيراً مع انتشار الأوبئة كالكوليرا والجمرة الخبيثة، دع عنك الفساد المالي والإداري وسوء الخدمات، حتى حل العراق في المرتبة الثالثة عالمياً في قائمة الدول التي تعاني هذه الظاهرة.
ويمكن أن نضيف بخصوص موقف القوى المناهضة للاحتلال أنها، وخصوصاً تلك التي تنشط خارج العملية السياسية الاحتلالية، تفتقر إلى الحد الأدنى الضروري من التضامن والتنسيق بين أطرافها، وهي أعجز من أن تتصدى لأحداث واستراتيجيات مضادة لمصالح شعبها. وبهذا العجز والتلكؤ والسير المنفرد، تسير هذه القوى على طريق العزلة والخروج من الميدان، بما يجعل مصيرها ليس أفضل من مصير خصمها في الحكم. وقد بات ملحّاً أن تسارع إلى اجتراح السبل والوسائل والكيفيات الضرورية والمناسبة، مهما كانت متواضعة وبسيطة، لإخراج نفسها مما هي فيه اليوم من شلل وتشرذم.
مع ترسّخ شعار «النفط مقابل السفارات» في التعاطي بين بعض الحكومات العربية، يمكن القول إن الجاري ليس تضامناً عربياً كما يقول العنوان الأنيق الذي تندرج تحته عملية فتح السفارات العربية في بغداد، بل هو نوع من المتاجرة والتشاطر بين أطراف تعرف أنها لا تختلف عن بعضها بعضاً في المضمون «القومي»، كما في الشكل. عنينا شكل الحكم والعلاقة المباشرة مع الشعب المحكوم.
* كاتب عراقي