من «طرح البحر» استخرج أعماله المعروضة حالياً في قاعة «إكسترا» في الزمالك (القاهرة). هذا الفنان المسكون بالفرح الطفولي، يمضي في رحلة بحثه عن «عالم مفقود» يتصالح فيه الإنسان مع نفسه. عاشق الطبيعة، وعشير البحر، لم يفقد يوماً متعة التواصل مع الآخرين... ولم يتخلّ عن إيمانه بضرورة «توصيل الفن إلى الناس»

دينا حشمت
من يرِدْ أن يعرف جميل شفيق على حقيقته فلا بد من أن يذهب إليه في بيته على البحر، في الساحل الشمالي غرب الإسكندرية، حيث استقر منذ عام 1995 هرباً من «القاهرة القاتلة». هناك يستقبلك بحفاوة الأصدقاء القدماء، يقطف لك جوافة «من الشجرة» ويشاركك فرحه الطفولي بنمو شجرة التين القوية، ودهشته المستمرة من حيل «عائلة القطط» التي تشاركه عزلته شبه التامة أغلب العام.
يستقبلك «مجنون الخشب» بآخر قطعه الفنية: شمعدانات نُحتت من ألواح خشبية. لكل منها تاريخ خاص يكشفه لك بالفرح الطفولي نفسه. هذه القطعة في الأصل لوح صندوق سردين التقطه على شواطئ المغرب وفرّغه كي ينحت فيه أشكاله المفضّلة، من أحصنة وأجساد نسائية؛ وهذه الأخرى احتفظت بطلائها الأزرق، فهي في الأصل قطعة من مركب أرسلها البحر على شاطئ الإسكندرية؛ وتلك شكّلت حفرة دائرية فيها عين سمكة زعانفها من عروق الخشب.
على شاطئ المتوسّط أقام جميل شفيق مملكته، في هذا البيت الذي فرشه بأثاث صنعه بنفسه من «طرح البحر»: الطاولة و«الدكّة» والأبواب، كلها من ألواح خشبية رمتها الأمواج على الرمال البيضاء. هنا يستعيد وئام الطفولة مع الطبيعة، متعة الصيد وتذوّق «رزق البحر»، الذي يُجيد طبخه، ويسترجع شيئاً من صباه، عندما كان يتسلّل إلى الترعة ليقضي ساعات طويلة في الصيد واللعب مع الطبيعة.
جميل ابن الطبيعة، ابن السنوات السعيدة على ضفاف الترعة، وابن عائلة لم تجد مفراً من الإذعان لرغبته بدراسة الفن، فسجلته في كلية الفنون الجميلة في القاهرة، بعدما قضت الأم سنوات طويلة «تتستر على كراسات الرسم» وألوان ابنها، خوفاً من غضب الأب الذي لم يرد لولده أن «ينشغل عن الدراسة». في كلية الفنون، لم تكن الأجواء الثقافية والفنّية المفعمة بأحلام الثورة، غريبة عن الشاب الآتي من طنطا. بعد تأميم قناة السويس في 1956، رسم لوحة كبيرة عن المقاومة في بور سعيد وعُرضت في مدرسته: «كانت مدرسة طنطا الأحمدية الثانوية من المدارس العظيمة، تحتضن الهوايات. كانت هناك غرفتا رسم، وغرفة أشغال، وجمعية رسم». كان جميل شفيق مسؤولاً عن جمعية الرسم، و«يملأ المدرسة صور عرابي» مع زميله حجازي الذي أصبح رسّام كاريكاتور شهيراً.
في القاهرة، سكن جميل شفيق «شقة العجوزة» التي تقاسمها مع نبيل تاج ومحي الدين اللبّاد، وسرعان ما أصبحت ملتقى لكل الفنانين والأدباء المتمرّدين آنذاك: من الشاعر عبد الرحمن الأبنودي، إلى الكاتب يحيى الطاهر عبد الله، مروراً بالشاعر سيد حجاب والرسّام آدم حنين. «شهدت فترة الستينيات نوعاً من الحماسة الوطنية، والإيمان بفكرة الثورة. انجذب الكثير من الفنانين إلى هذا التيار، وكان هناك مساحة تعبير».
عمل جميل شفيق في مجلة «التعاون الفلاحي» التي كانت توزّعها الجمعيات التعاونية، بروح شاب شيوعي يريد أن «يوصّل الفن للناس»: «كانت رسوماتي مختلفة عن تلك التي كنت أرسلها لمجلة «المجلة» الثقافية. في «التعاون الفلاحي»، “كنت أتجنّب رسم أشياء مجرّدة». سمحت له هذه التجربة بأن «يلف مصر» من الدلتا إلى الصعيد. وبعد رحلة عشرة أيام من الواحات إلى النوبة، في إطار قافلة نظّمها رئيس تعمير الصحاري لتصنيف التربة، عاد مفتوناً «بمتعة الصحراء وبخزين داخلي» وعدد لا بأس به من السكتشات.
يتواكب حديث جميل شفيق عن هذه الرحلة التكوينية دائماً بالحديث عن رحلات أخرى قام بها بعد 1979، في أنحاء العالم العربي، كخبير فني في المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم. أحب قصة إلى قلبه عن تلك الفترة قصة زيارته لقرية «دراري» على نهر شبيلي: «كنا، نحن خبراء المنظمة، ذاهبين لتنظيم دورة للصوماليين. ركبنا طوفاً لنصل إلى القرية، وشد الرجل الجنزير. لم يكن هناك عمدة في استقبالنا؛ الناس عملوا حلقات رقص، بآلاتهم الموسيقية والكراسي، وجلسوا لاستقبالنا». عاد من هذه القرية بكرسي «لم يدق فيه مسمار واحد» وبافتتان عميق بقرويين يعيشون في اكتفاء ذاتي كامل: «هناك توازن بين الإنسان ووجوده، هو الذي صنع آلته الموسيقية، كرسيه، أكواب الماء، وكل شيء». اكتشف «عالماً مفقوداً» في مواجهة «عالم استهلاكي» لا يمكن الفرار منه.
كان طبيعياً إذاً ألا يُشغله تنظيم معرض خاص: «كنت مؤمناً بفكرة أخرى، قريبة من مدرسة المكسيك، عن أهمية وجود الفن على الجدران، في الخارج، كي يراه الجميع. الفن لم يكن بالنسبة إليّ لوحة توضع في البيت». هكذا لم ينظّم معرضه الأول إلا بعد الخمسين، سنة 1989، مدفوعاً بإصرار الأصدقاء. وفوجئ بـ«تجاوب الناس» مع لوحاته «الأبيض والأسود» المرسومة بالحبر. ثم توالت المعارض بوتيرة سريعة: في القاهرة طبعاً، وبيروت («مسرح المدينة» 1995 و1997، «قصر الأونيسكو» 2002)، عمان (1997)، باريس، النروج.
لكن الشغل الشاغل لهذا الفنّان الذي اقتنى متحف الفن الحديث في القاهرة بعض أعماله، لا يزال التواصل مع الناس. لا يفرحه شيء مثل أن يطلب منه «عمال بلاط» أن «يتصوروا عند الحتة دي» أي تحت إحدى لوحاته الخشبية المعلّقة أمام بيته. ولم يفقد حسه النضالي، فحنينه إلى «عالم مفقود» وميله إلى العزلة لم يمنعاه قط من ربط أواصر التضامن في «عالمنا البشع» هذا. أهدى «المجموعة المصرية لمناهضة العولمة» شعاراً خاصاً بها، الـ«لوغو» عبارة عن إنسان يحمل الكرة الأرضية على ظهره المقوس، ويذكّرنا بلوحته «عرس الصحراء»، المرسومة بالحبر، حيث ينوء رجال أربعة بحمل سمكة ضخمة. أخذ مبادرة تنظيف شارعه في الساحل الشمالي من القمامة وفضلات البناء، فجمع شباب عمّال المجمع السكني وعمل معهم وكانت النتيجة مبهجة له ولجيرانه. قصة أخرى من قصص فرحه الطفولي.


5 تواريخ

1938
الولادة في طنطا

1957
التحق بكلية الفنون الجميلة في القاهرة، قسم التصوير

1989
أول معرض في «أتيليه القاهرة»

1994
جائزة لجنة التحكيم في الرسم ـــ بينالي الإسكندرية لدول حوض البحر الأبيض المتوسط

2008
معرضه الحالي في قاعة «إكسترا» ــ الزمالك، حتى 8 تشرين الثاني (نوفمبر)