ازدهرت ظاهرة الاغتيال بالعبوات الناسفة خلال الحرب الأهلية، وكانت السيارات المفخخة القنّاص الأبرع الذي نادراً ما أخطأ. لم يقتصر عمل العبوات الناسفة على استهداف السياسيين والعسكريين والأمنيين، فقد أزهقت أرواح عشرات المواطنين. القنّاص لم يتقاعد مع مجرمي الحرب الأهلية، فهو لا يزال يطلّ بفوهة بندقيّته ساعة يشاء، مقتنصاً كل من تقع عليه القرعة
رضوان مرتضى
كبسة زر.. تتحوّل جدران الاسمنت غباراً. أما السيارة فتُصبح أثراً بعد عين. تستحيل حطاماً لا يستفيد منه حتى بائع الخردة أحياناً. وإن كنتَ محظوظاً، يقذف الضغط بجثتك بعيداً عن السيارة، وإلا تختلط أشلاؤك بالحديد المتفحّم. وإذا اشتبهت بجسم غريب، لا تشد حبلا مرخياً ولا تقطع حبلاً مشدوداً، لأنها ستكون حركتك الأخيرة.
عصف.. لهب.. صوت.. صدمة.. إنها نوتة العبوات الناسفة. طريقة «عصرية» للقتل. نادراً ما تخطئ. ألِفها لبنان في مرحلة الحرب واعتقد مواطنوه أنها ذهبت بذهابها. لكن اللبنانيين ما لبثوا أن تأكدوا من فساد اعتقادهم. فخلال السنوات الأربع الماضية، هزّ البلادَ 33 انفجاراً، قاتلاً أكثر من 100 شخص وجارحاً 444 آخرين. ما هي العبوات الناسفة؟
يشرح خبراء متفجرات لبنانيون أن العبوات الناسفة مزيج من مواد كيميائية، صلبة أو سائلة، قابلة للتحوّل إلى كمية ضخمة من الغازات ذات ضغط هائل، تصحبها حرارة شديدة وصوت وضوء. وتحتاج عملية التحول إلى صاعق يولّد موجة انفجارية صغيرة تؤدي إلى انفجار المواد. ويتم تصنيف العبوات حسب تركيبها أو تبعاً لطريقة استعمالها، أو بناءً على الجهات التي تصنّعها.
أكثرها رواجاً في لبنان تلك التي تفجّر بواسطة جهاز تحكّم عن بعد. يُلصَق بعضها بواسطة مغناطيس أسفل مقعد السائق (اغتيال جورج حاوي) أو أسفل السيارة فوق العجلة (اغتيال صالح العريضي)، فيما يزرع بعضها على جانب الطريق في سيارة (محاولة اغتيال مروان حمادة واغتيال فرنسوا الحاج) أو في حقيبة (متفجرة التل في طرابلس). يُرصد بعدها الهدف، وعند اقترابه يُضغط على الزر... يكثر استخدامها في عمليات الاغتيال لدقة اصطيادها للأهداف المتحركة. وتتألف من مواد متفجرة وصاعق وجهاز تحكم عن بعد ولاقط لإشارة التحكم.
في المقابل هناك العبوات التي تزوّد بجهاز توقيت بدلاً من جهاز التحكّم ولاقط الإشارة. تستخدم عادة في التفجير العشوائي، وغالباً ما استهدِفت بها الحافلات والأماكن السكنية (عين علق ومونو ونيو جديدة).

تركيب العبوات

تُقسَم العبوات إلى نوعين رئيسيين: النظامية وغير النظامية. العبوات النظامية تصنّعها، بحسب خبراء متفجرات، دول وأجهزة رسمية. وتكون موضّبة على شكل حقائب، وغالباً ما تستخدم لأغراض عسكرية خاصة بجيوش هذه الدول وأجهزتها الأمنية. أما العبوات غير النظامية أو أجهزة التفجير الارتجالي (IED)، فهي تلك التي تركّب يدوياً. وتنقسم أيضاً إلى قسمين: منها ما يستخدم فيه مواد تفجير جاهزة مثل TNT ـــ C4ـــSEMTEX ـــ RDX (تُصنّع في دول الاتحاد السوفياتي السابق وأوروبا وأميركا والهند ومصر). ومنها ما تدخل في تكوينها مواد متفجرة مصنّّعة يدوياً، من السكر ونشارة الخشب والكربون الأسود وزيت الصويا ونترات الأمونيوم. وهي بدورها تحتاج إلى صاعق للتفجير.
الصاعق هو أحد الأجزاء الأساسية التي تدخل في تركيب العبوة، ولا يمكن التفجير بدونه. هو أنبوب معدني (ألمنيوم أو نحاس) صغير (بين 5 و7 سم) يحوي شحنتي اشتعال وتفجير. يُزرَع في المواد القابلة للانفجار، ويؤدي انفجاره إلى تفجير العبوة. يوجد نوعان من الصواعق: الحرارية والكهربائية. يحتاج الصاعق الحراري إلى فتيل إشعال لإيصال اللهب إلى داخله وإحداث الانفجار. أما النوع الآخر فيُفَجّر بواسطة شحنة كهربائية.
اختلاف تأثير الانفجار وحجم الأضرار يعود بشكل رئيسي إلى كمية حشوة التفجير ونوعها. وهناك عوامل أخرى مثل طبيعة الأرض (صخرية أو ترابية)، فضلاً عن مكان زرع العبوة (بين مبنيين، اغتيال الحريري ووليد عيدو) وكيفية توجيه عصفها. وعادة ما يتم توجيه العبوات عبر تغليفها أيضاً بمواد صلبة (وضع العبوة في وعاء من الصلب مغلق من كل الاتجاهات ما عدا جهة واحدة، ما يؤدي الى توجيه الموجة الانفجارية الرئيسية عبر المكان الوحيد المفتوح). وفي بعض الأحيان، يضيف معدّو العبوة قطعاً معدنية إليها (مسامير أو عزقات أو كرات حديدية) لزيادة عدد الإصابات البشرية (محاولة اغتيال سمير شحادة وتفجير عين علق وتفجير التل في طرابلس).
تغطي دائرة الانفجار مساحة قطرية محسوبة مسبقاً، إذ يمكن أيّ خبير متفجرات احتساب الدائرة التي سيعصف فيها التفجير، ومعرفة حجم الأضرار التي سيخلفها، ويعمل وفق القاعدة نفسها التي يستخدمها خبراء الشرطة لتقدير حجم العبوات بعد تفجيرها.
الشرطة: مفكّ براغي و«قطّّّّاعة»
زارعو معظم العبوات في لبنان أحرار. ويقول أكثر من مسؤول أمني إنهم شديدو الاحتراف. وفي مقابلهم، يقف مكتب المتفجرات في قسم المباحث العلمية في وحدة الشرطة القضائية الذي يضم خبراء، وظيفتهم الرئيسية تفكيك العبوات الناسفة قبل انفجارها، وفي الدرجة الثانية الكشف على أمكنة وقوع التفجيرات لجمع الأدلة وإرسالها الى المختبرات لفحصها، لما لهذا التحليل من فائدة كبرى للتحقيق.
منذ زمن، لم يفكك خبراء المكتب عبوة حقيقية، وأكثر البلاغات التي ترد عن الاشتباه بسيارات وحقائب تكون نتيجتها سلبية، إذ إن القطعات الاستعلامية عاجزة عن الحصول على معلومات دقيقة حول العبوات قبل تفجيرها.
قدم المكتب شهيدين، هما محمد الإسلامبولي وخالد ابراهيم (عام 1984)، فضلاً عن 3 جرحى. ويعمل فيه حالياً 18 خبيراً فقط، ورغم خطورة عملهم، فهم لا ينالون أي تقديمات تحفيزية. أما النقص في التجهيزات فحدّث ولا حرج، إذ تقتصر «عدّة» الخبراء على أدوات تقليدية (قاطعة، مفك براغي، مطرقة، شفرة) إضافة إلى جهاز لكشف المتفجرات وآلة لفتح السيارات المشبوهة. بالمقابل، لا يوجد في المكتب جهاز تشويش لتعطيل الإشارات اللاسلكية، كذلك فإن اللباس الواقي قديم العهد، ويزن نحو 25 كلغ، ويعيق حركة الخبير أثناء عمله. أما «الروبوت» المخصص لفحص العبوات وتعطيلها، فهو معطّل منذ سنين.