strong>التقاه الموت فتصارعا... وخرج محمود منتصراً بعدما انتزع حياتَه من قبضة الموت المُحكمة، لكن الأخير أبى إلا أن يترك أثره في جسد محمود، آخذاً منه يديه وإحدى عينيهيعود خبير المتفجرات محمود خشاب بالذاكرة إلى عام 1987، حين تواجه مع العبوة التي اصطادته رغم اصطياده للعشرات قبلها. كان في يوم إجازته، لكنه تلقى اتّصالاً يفيد عن وجود عبوة في أسفل جسر الكولا.
يقول محمود: «توجّهت إلى هناك، وعند وصولي أخبرني رجال الأمن أن العبوة لاسلكية». يضيف، «لم أبال، اقتربت من كيس ورقي... مزّقته قليلاً». يصمت لبرهة، «في تلك اللحظة دوّى انفجار... آخر شيء رأيته كان لوحَي TNT وسلكين أبيضين».
عصفُ الانفجار قذف بجسد محمود ليرتطم بسقف الجسر، يقول: «عرفت أني لم أمت لأني سمعت صوت الانفجار الذي خلّف طنيناً قوياً في أذني». بدأ محمود يتقلب على الرصيف وصرخ منادياً أصدقاءه لينقلوه إلى المستشفى. «لم أشعر بأي جزء من جسدي، فقط قدمي كانت تؤلمني، وانتابتني رغبة قوية بحكّ يديّ».
لم يعلم محمود ما حصل له، إذ لم يكن باستطاعته الإبصار. لحظات وصرخ أحد زملائه «الله أكبر». سألهم: «شو صار لي؟ خبّروني عن إصابتي»، لاذ زملاؤه بالصمت وشرع أحدهم يحكّ له يديه أو... ما بقي منهما، إلى أن أوصلوه إلى مستشفى الجامعة الأميركية. يقول خبير المتفجرات: «لم أخف يوماً من عبوة، حتى التي استهدفتني، لقد كانت تزن 800 غرام».
لا يزال الصيّاد محتفظاً ببزّته التي مزّقها الانفجار، «يزيّن» بها جدار منزله إلى جانب صور وعناوين صحف تحدّثت عن استهدافه. يشعل محمود سيجارته ويكمل، «غسلت والدتي دمائي عن البزّة لأني طلبت الاحتفاظ بها لتبقى شاهداً على ما جرى لي». ولئن تأقلم محمود مع جسده الجديد (يدان مبتورتان من الرسغ وعين زجاجية)، فإنه يرفض ارتداء البزة الممزقة التي ستذكره دوماً بأنها كانت تغطي يدين تحوّلتا أشلاء.
محمود خشّاب، (مواليد 1961) أحد أوائل خبراء المتفجرات في لبنان. التحق بقوى الأمن الداخلي عام 1984، يوم كانت السيارات المفخخة تحصد العشرات في الشوارع. حصّل محمود جزءاً من خبرته العسكرية نتيجة نشأته بين الميليشيات المسلحة على أصوات القذائف في فترة الحرب، فأنس بها سمعه وصارت لذة ينشد تكرار تجربتها بين حين وآخر. تملّكته رغبة بالتعمّق في عالمها، فسافر إلى المملكة العربية السعودية لدراسة اختصاص نسف المباني، ثم عاد ليستكمل عمله كخبير متفجرات في مكتب المتفجرات في الشرطة القضائية.
خسر يديه وإحدى عينيه عام 1987 في انفجار عبوة استهدفته شخصياً بعد تمكنه من تفكيك العشرات منها في بيروت، ورغم الإصابة، لم يترك العمل في المجال الأحبّ إلى قلبه، المتفجرات. فهو لا يزال أحد خبراء المتفجرات في الشرطة القضائية. يقول محمود: «أرفض فكرة الإصابة، وأفضل الانتحار على الشعور بالعجز»، ويضيف، «عندما أُبطل عبوة أشعر بالعزة لأني ساهمت بإنقاذ روح أحدهم».
أما ماذا تغيّر على محمود بعد الإصابة، فيجيب بثقة: «أعجز فقط عن فك زر البنطال، لذلك لا أرتدي إلا تلك التي فيها سحّابات». محمود يستطيع قيادة السيارة وبإمكانه استخدام هاتفه الخلوي. وإضافة إلى ذلك، لا يزال يكتب ويشعل السيجارة. يشرب القهوة بنفسه، ويمسك بالملعقة والشوكة، وبإمكانه استعمال القطّاعة والمطرقة في عمله. وقبل نحو شهر، حاز تنويه وزير الداخلية والبلديات بعد تمكّنه، وحيداً، من توقيف سارق بالجرم المشهود: «أقفلت الطريق عليه بسيارتي، ثم ترجّلت ولحقت به. أمسكته، ووضعت يدي في ظهره. ظن أنني أحمل مسدساًَ».
رائحة البارود والدم التي تغلّف معظم أحاديث صائد العبوات، تخفف من وطأتها زوجته، أم ياسر، التي رُزق منها بأربعة أبناء، شابين وفتاتين. تقول: «تزوّجته رغم علمي بخطورة مهنته. أتريدني أن أتركه بعد ما حصل؟ أبداً. لقد أحببته، ونقطة عالسطر».
ر. م.