محمد زبيبتشكّل الأزمات، عادة، فرصاً مفتوحة أمام القوى الإصلاحية للضغط من أجل إعادة الاعتبار لطروحاتها... إلا في لبنان، حيث تتحوّل هذه الأزمات إلى عامل إضافي يضغط بالاتجاه المعكوس ـــــ أي باتجاه تكريس الواقع القائم، وتجذير الممارسات المرتبطة به، بل وتحويل هذه الممارسات في الوعي الجمعي الى «إنجازات» كان البلد سينهار من دون تحقيقها. ليس هناك سر يكمن وراء الحالة اللبنانية الشاذة، فالمسألة ـــــ كل المسألة ـــــ يمكن تفسيرها بعدم وجود القوى الإصلاحية الجدّية أصلاً، وعدا القلّة من الناشطين في الحقل العام وبعض الخبراء والاكاديميين غير المرتبطين (حتى الآن) بدواوين أمراء الطوائف والحرب والمال، فإن الساحة متروكة بشكل شبه كامل لهؤلاء المستفيدين من استمرار الواقع القائم بكل تفاصيله.
لقد شكّلت ردود الفعل المحلية على الأزمة العاصفة في العالم، إثباتاً إضافياً على وجود هذا النوع من «الفراغ» القاتل. ففي الوقت الذي يُشغل فيه العالم كله بالبحث عن بدائل تحدّ من سطوة العقول «المافياوية» وتؤمّن الاستقرار، ولو بحدّه الادنى، للنظام الرأسمالي وأسواقه «الحرة»، يغرق الإعلام اللبناني بمواقف وتصريحات وخطابات (لا فرق هنا بين أطراف الصراع المحلي) تمجّد السياسات المالية والنقدية المعتمدة منذ عام 1992، وتقدّس الجهاز المصرفي الذي بات بمثابة «الايقونة»!
ما حصل في الاسواق المالية العالمية، أثبت أن الدين يمثّل مشكلة بذاته، وهو قد ينفجر في أي لحظة ليتحوّل الى كارثة، وهذا يخالف الاعتقادات السابقة، التي تبنّتها الطبقة السياسية اللبنانية، والتي تحصر الهمّ بخدمة الدين، لا بأصله وفصله وحجمه، وهي، على هذا الاساس، توافقت على تجنيد كل اللبنانيين، فقراء كانوا أو أثرياء، من أجل تأمين هذه الاولوية المطلقة التي لا توازيها أي أولوية أخرى مهما بلغت أهميتها أو إلحاحيتها في الحاضر كما في المستقبل.
هذا التوافق الذي أمّن معدّلات ربحية عالية جداً للمصارف وأعفاها من المخاطرة في الأسواق الداخلية والخارجية، أصبح إنجازاً يسمح للقيّمين عليه بتمنين المواطنين لأنه جعلهم في منأى عن شظايا الانهيارات المتسارعة... وصدّق المواطنون ذلك على الرغم من أن أكثر من 80 في المئة منهم كانوا غير معنيّين بالمكاسب السابقة وتحمّلوا وحدهم الكلفة الباهظة، إذ إنّ كل الضرائب والرسوم تذهب الى المصارف وحاملي سندات الدين، فيما أقل من 20 في المئة منهم ينعمون بنصف فاتورة الاستهلاك على مستوى البلد.