هشام صفي الدين *قد لا يلام الرئيس ميشال سليمان إن لم يتابع خلال زيارته إلى كندا لحضور القمة الفرنكفونية نتائج الانتخابات البرلمانية في هذا البلد الذي يضم إحدى أكبر الجاليات اللبنانية في المهجر.
فهذه الانتخابات، التي جرت الأسبوع الفائت، كادت أن تغيب عن بال الكنديين أنفسهم في ظل متابعتهم تطورات السباق الرئاسي نحو البيت الأبيض جنوباً. وهي لم تحدث تغييراً جذرياً في التركيبة السياسية. أُعيد انتخاب حكومة أقلية محافظة برئاسة ستيفن هاربر وخسر الليبراليون المزيد من المقاعد. إلا أن هذه النتيجة وغياب قضايا مصيرية كالحرب في أفغانستان عن السجال الانتخابي يعزز مقولة التحول المستمر للدور الجيوسياسي الكندي في العالم. وهو تحوّل يجب أخذ العلم به اليوم أكثر من أيّ وقت مضى في ظل تراجع ولو جزئياً لقدرة الولايات المتحدة على تثبيت هيمنتها على مختلف أصقاع الأرض بمفردها، وخاصة في حال وصول باراك أوباما إلى كرسي الرئاسة.
فهذا الأخير يبشّر بتفعيل جبهة باكستان ـــ أفغانستان على حساب الجبهة العراقية. وكندا من الدول الرئيسة المشاركة في احتلال أفغانستان. والقوى الشعبية الكندية المناهضة للحرب في أفغانستان تعاني الوهن المتزايد. فما بالك لو جاء تفعيل دور كندا تحت شعار دعم الرؤية «المعتدلة» لأوباما الذي لا يملك رصيد بوش السيئ في الأوساط الكندية؟
والحقيقة أن دور كندا في دعم الحرب التوسعية الأميركية في الشرق الأوسط أكبر وأكثر تشعباً ممّا قد يظنّ البعض. ففي عام 2006 تولّت كندا قيادة قوى الاحتلال الدولية في مقاطعة قندهار في أفغانستان. وتزامن ذلك مع تحوّل تدريجي نحو ما يعرف بعسكرة السياسة الخارجية خلافاً للدور التقليدي (الرسمي على الأقل) لكندا كدولة حفظ سلام.
وجرى تبني هذا التحوّل من الليبراليّين والمحافظين على حدّ سواء. فقد وعد الليبراليون عام 2005 بزيادة ميزانية الدفاع بقيمة 13 بليون دولار على مدى خمسة أعوام. وفي 2006، فاز المحافظون وأقرّوا بدورهم زيادة سنوية لهذه الميزانية بنسبة 2% على مدى 20 سنة، إلى جانب 15 بليون دولار إضافية لتحديث الآلة العسكرية من عتاد وأسلحة (الميزانية العسكرية لكندا بلغت 18 بليون هذا العام). وتحتلّ كندا المركز السادس بين دول الحلف الأطلسي من حيث الإنفاق العسكري، وقفزت إلى المرتبة نفسها عالمياً (بعد الصين مباشرة) من حيث الصادرات العسكرية. ولا يقتصر دور كندا في دعم المشروع الأميركي في الشرق الأوسط وآسيا على أفغانستان. فبالرغم من القرار الرسمي الكندي بعدم الانضمام إلى القوى المتحالفة مع الولايات المتحدة في غزو العراق عام 2003، قامت القوات الكندية بأدوار عدة رئيسية أثناء الغزو وبعده. وشملت هذه الأدوار مهمات لوجستية (نقل مؤن ومعدّات وآليّات ومراقبة خطوط الإمدادات البحرية والجويّة)، ومهمات تدريب أفراد الشرطة العراقية التابعة لحكومة الاحتلال على يد البوليس الفدرالي الكندي في الأردن، وحتى مهمات قيادية (تولّى جنرالات في الجيش الكندي كنيكولاس ماتيرن وبيتر دافلين مناصب رفيعة ضمن القوى الموجودة على أرض العراق).
وقد عبّر السفير الأميركي السابق في كندا بول سلّوتشي عن حجم هذا الدّعم عندما أشار خلال الغزو في آذار 2003 إلى مفارقة أنّ «سفن كندا وطائراتها وجنودها سيقدّمون دعماً غير مباشر لهذه الحرب في العراق يفوق معظم الدعم الذي تقدّمه 46 دولة علناً».
وإعادة صياغة عقيدة الجيش الكندي أفرزت ظاهرة رئيس أركان الجيش (المتقاعد حاليّاً) ريك هلير. فقد أصبح الأخير وجهاً حاضراً بقوة في وسائل الإعلام، واتخذ دوراً مماثلاً للجنرالات الأميركيين كبترايوس أو فرانكس كبطل قومي ذي مصداقية وغير خاضع لفساد الطبقة السياسية.
هذا في ما يخص العراق. أما في ما يخص الصراع العربي ـــ الإسرائيلي، «فأسرلة» السياسة الخارجية الكندية (وإن كانت منحازة دوماً إلى إسرائيل) ماضية على قدم وساق. لقد كانت الحكومة الكندية أولى الحكومات الغربية التي قطعت الدعم المالي عن السلطة الفلسطينية فور فوز «حماس» بالانتخابات التشريعية.
وحصار غزة الخانق لم يثنِ أحد النوّاب الليبراليين البارزين كِن درايدن من المطالبة خلال حملته الانتخابية الأخيرة «بوقف كل المساعدات إلى غزة»، ولو أنّ ذلك «قد يبدو إجراءً قاسياً يؤذي الفلسطينيين».
لبنانياً، وكما هو معلوم أو يجب أن يكون معلوماً، وصف هاربر اعتداءات إسرائيل على لبنان أثناء حرب تمّوز «بالرّد الموزون». وقد أدرج البرلمان الكندي حزب الله بشقيه العسكري والسياسي على لائحة المنظمات الإرهابية عامي 2001 و2002. وداخلياً، تتقاعس الحكومة عن أداء أدنى واجباتها نحو مواطنيها من أصل مسلم عندما يتعلق الأمر بـ«الحرب على الإرهاب». فكندا هي الدولة الوحيدة من بين الدول الغربية الصديقة للولايات المتحدة التي ما يزال يقبع أحد مواطنيها (عمر خضر وهو طفل حرب) في زنازين غوانتانامو.
هذا وقد أظهر شريط فيديو أذيع أخيراً أن السلطات الكندية شاركت في تعذيبه. ولم يثر الفيديو المؤثر حالة غضب شعبية كما توقع محامو خضر. أما في ما يخص من يحاول الحصول على الجنسية الكندية، فقد مُنح وزير الهجرة صلاحيات زائدة قي تقرير مصير طلبات الهجرة. وهو ما فسره ناشطو حقوق المهاجرين كمحاولة لتقويض شفافية هذه العملية في سبيل التمييز على أساس ديني وعرقي.
المقلق في ما تقدم أن هذا التحول في دور كندا يقابله حالة شبه نكران شعبية، حيث لا تزال فكرة كندا كحافظة للسلام هي الثقافة السائدة. بالطبع، لم تكن كندا يوماً محايدة في سياستها الخارجية. فهي وقفت إلى جانب الولايات المتحدة في معظم مغامراتها الإمبريالية، من الحرب الكورية في منتصف القرن الماضي، وحتى قلب النظام في هاييتي، وحرب أفغانستان اليوم. لكنها غالباً لم تكن على الدرجة نفسها من العدوانية، ونأت بنفسها عن معظم ما كان منافياً بحدة لقوانين الشرعية الدولية، وهو ما يجري تقويضه تدريجياً. وعليه، لم يعد مقبولاً التعاطي مع كندا كقوة اعتدال (اللهمّ إلا في المفهوم المصري أو السعودي). ووجب نقل هذه الرسالة إلى ممثليها الدبلوماسيين وممارسة الضغوط المناسبة والممكنة لحث كندا على التراجع عن هذا التوجه.
أيّ تقاعس عن القيام بذلك من أي رئيس أو سلطة أو جهة مسؤولة عربية أو إسلامية يستحق لوماً وعتاباً... بل محاسبة.
* كاتب لبناني