آثار جديدة مكتشفة في مدينة صيدا تعيد كتابة تاريخ المدينة وتنفض الغبار عن حقبة مجهولة. ولكن الموقع الأثري يقع في عقار خاص، فماذا سيكون مصير هذه الآثار الفريدة؟
جوان فرشخ بجالي
أدّى اكتشاف معالم أثرية في منطقة ساحة الشهداء في صيدا، إلى إعادة فتح السجال بشأن المحافظة على الإرث الوطني. وقد انتقل الاهتمام من وسط بيروت إلى المدن التاريخية الكبرى التي توازي العاصمة غنىً بالآثار. فقد كان لكلٍّ من مدن الشاطئ اللبناني دور مهمّ تؤدّيه في حقب تاريخية معينة. وها هو اليوم اكتشاف الآثار الرومانية والهلنستية في صيدا يسلّط الضوء على الملف ــ العقدة. فقد اكتشف علماء الآثار الذين يعملون على عقار خاص في منطقة ساحة الشهداء، وبإشراف المديرية العامة للآثار، مقابر المدينة الرومانية وسورها الهلنستي وطريقها الأساسية. آثار تمتد إلى عمق ستة أمتار وعلى مساحة تفوق الألفي متر. طريق معبدة بالحجارة البيضاء مصفوفة على أطرافها النواويس المنحوتة في الحجر الكلسي، وأخرى مصنوعة من الرخام الأبيض والمزخرفة جوانبها. أعمدة مرمية على الأرض، مقابر عائلية تغطي الرسوم جدرانها... اكتشاف أثري سيسمح بمعرفة تاريخ صيدا في الفترتين الهلنستية والرومانية.
وتجدر الإشارة إلى أن صيدا أغنت أكبر متاحف العالم بالقطع الأثرية المكتشفة فيها. فناووس إسكندر يعدّ اليوم من روائع متحف إسطنبول حيث هو معروض، بعدما «استملكته» السلطنة العثمانية بُعيد اكتشافه. هناك أيضاً النواويس الهلنستية المنحوتة على شكل أشخاص والمعروضة في المتحف الوطني.
لكنّ «صيدا الرومانية» بقيت مجهولة المعالم. فالمدينة الحديثة التي بدأت تمتد منذ خمسينات القرن الماضي شيّدت على أنقاض المدينة الرومانية، ولم تجرِ في حينها حفريات علمية، بل رُفعت الآثار لإخلاء الأرض والسماح للمدينة بالتوسع. وكان علماء الآثار آنذاك يكتفون ببعض التقارير السريعة. وخلال الحرب الأهلية ازداد الطين بلة، إذ بقي الإعمار في المدينة على حاله، ورُفع الكثير من الآثار من دون استشارة المديرية العامة للآثار، أو بكل بساطة تعرّضت للنهب، مما أوصل الوضع إلى ما هو عليه اليوم: صيدا العريقة تاريخياً لا تملك من تاريخها الروماني إلّا جزءاً صغيراً.
من هنا تأتي أهمية الاكتشاف الأثري الحالي الذي يعطي صيدا موقعاً متقدّماً على صعيد تاريخ لبنان. فحقب تاريخ المدينة التي سكنها الإنسان الأول أصبحت اليوم معروفة، وبقايا الآثار موزّعة في أرجائها. ففي موقع الدكرمان، أولى القرى التي استوطنها الإنسان على الشاطئ اللبناني، وكذلك حفريات المتحف البريطاني قرب القلعة البرية، تظهر المدينة الكنعانية والفنيقية. أمّا معبد آشمون، فهو المعبد الفينيقي الوحيد الذي ترتفع جدرانه على امتداد الوطن. وفي المدينة القديمة، ثمّة آثار صليبية من القلاع والمرافئ وآثار إسلامية في الجوامع والحمامات والخانات. والآن أصبح للمدينة الهلنستية والرومانية آثارها أيضاً.
وتجدر الإشارة الى أن سور المدينة الذي يعود للفترة الهلنستية كان قد اكتُشف جزء منه في العقار المجاور لساحة الشهداء، وقرر في حينها صاحب المبنى المحافظة عليه وإدخاله ضمن هندسة المبنى. وهذا ما حصل بالفعل. ولكن المسألة اليوم مختلفة. فالعقار، حيث اكتشفت المقبرة، هو بأكمله موقع أثري. ومما لا شك فيه أن الآثار لا تتوقف على هذه الرقعة بل تمتد أيضاً إلى العقار المجاور الذي اعتاد سكان المنطقة استعماله ملعباً لكرة قدم. وهذا ما يشير إلى أن استملاك العقارات الثلاثة وإجراء تنقيبات أثرية عليها سيؤديان حتماً إلى اكتشاف المقابر الرومانية للمدينة، وإضافة موقع أثري غني جداً إلى تاريخها وإلى خارطتها السياحية.
ولكن قبل الوصول إلى هذه النقطة، أسئلة مهمة كثيرة تُطرح: هل ستقوم الدولة بالاستملاك وبدفع جميع المستحقّات لصاحب العقار الذي لم يتأخر بدفع كلفة حفريات الإنقاذ؟ هل ستبدأ الدولة اللبنانية بتبديل سياستها نحو الآثار وتعمل على الحفاظ عليها بشكل حقيقي؟ هل سيطالب وزير الثقافة الحالي بعدم رفع الآثار، وتتقدم الوزارة بطلب من رئاسة الحكومة بدفع المستحقّات؟ وهذا ما يحيل الملف على مسألة أخرى: هل سيحافَظ على الآثار ويتحول الموقع إلى منطقة سياحية أم سيُترك للنسيان؟ أم سيُعتمد حل آخر، كأن يُعمل مع صاحب العقار على إجراء تسوية في المحافظة على الآثار في أجزاء من الموقع وإدخالها ضمن المشروع، تماماً كما هي الحال في بيروت، حيث حفريات الإنقاذ في كل من الأشرفية (صوفيل) والصيفي؟
وهنا يجدر التذكير بأن فعاليات صيدا، وخصوصاً النائب بهية الحريري، وبالتنسيق مع هيئة مدارس صيدا، كانوا قد قاموا هذه السنة بخطوة هي الأولى من نوعها في لبنان. فقد قدمت الهيئة إلى بعثة المتحف البريطاني في صيدا هبة قدرها 30.000$ دعماً للتنقيبات الأثرية، وأرسلت بعضاً من طلاب ثانوية الحريري إلى الموقع لتعلّم تاريخ صيدا والمشاركة في العمل الميداني. فهل يمكن اليوم أن تغض تلك الفعاليات النظر عن المحافظة على شطر من تاريخ المدينة لا يزال مجهولاً؟

حاتشبسوت الفرعونة التي هجرتها السينما



افتَتَح متحف الجامعة الأميركية في بيروت يوم الأربعاء الماضي موسم نشاطاته العلمية لهذه السنة بمحاضرة ألقاها مدير الجامعة الدكتور بيتر دورمان، المختص بالآثار الفرعونية. وكانت المحاضرة عن إحدى أكثر شخصيات الفراعنة غموضاً: الفرعونة حاتشيبسوت. فرعونة مصر التي قال عنها المؤرخون سابقاً إنها اغتصبت العرش من ابن أخيها الفرعون الفاتح توتموزيس الثالث فثأر منها هذا الأخير بأن دمَّر تماثيلها والصروح التي شيدتها. ولكن الدكتور دورمان لم يسلّم بهذا التحديد المبسّط لشخصية هذه الفرعونة الفريدة من نوعها، بل حاول أن يفهم تصرفاتها ويحدد هويتها بعد مرور أكثر من 3000 سنة على موتها. فأخذ مثلاً الرسوم والتماثيل التي ترمز إلى حتشيبسوت منذ بداية عهدها حتى نهايته. وتبيّن أنّها في سنين الحكم الأولى، حينما كانت زوجة الفرعون، كانت تظهر بفساتينها الطويلة وبتاجها الملوكي. ولكن بعد وفاة زوجها، بدأت الرسوم تتغير وأخذت الفرعونة تظهر بملامح رجولية. وكانت النصوص المنحوتة قرب رسومها تشير إليها كزوجة الفرعون المتوفَّى، وملكة مصر... ولكن، مع مرور الوقت وإطالة فترة الحكم، بدأت «ملامح» الفرعونة تتغير في التماثيل والرسوم. وخطوة تلو الأخرى، لم تعد زوجةَ الفرعون (الذي يعتبر إلهاً)، بل أصبحت ابنة الفرعون الحاكم القوي توتموزيس الأول، وتغير تاجها من تاج ملوكي إلى تاج فرعوني. وأتت هذه الخطوة بمثابة دعاية لنشر معلومات عن الفرعونة تعطيها الحق بالحكم.
وقد زيّنت حتشيبسوت العديد من المعابد المصرية بتماثيلها، كما أنها أسهمت بطريقة مباشرة في توسيع المعابد الكبيرة وتفخيمها، ويبقى قبرها من أهم وأجمل ما شيِّد في مصر الفرعونية. يشرح دورمان كل هذه التفاصيل ويبرز في النهاية كيف أن هذه الفرعونة لم تتأخر عن إبراز نفسها، بتكاوينها الأنثوية، وهي تضع تاج الفرعون في التماثيل الكبيرة. فأتت النتيجة: التماثيل لامرأة بزي رجولي. فرضت حتشيبسوت نفسها فرعونة، حتى إنها رسمت على جدران معبد الكرنك بجوار ابن أخيها توتموزيس الثالث. وتشير الدراسات الحالية إلى أنها لم تغتصب منه الحكم، ولكنها حافظت عليه من أجل ابن أخيها، وتأكدت من أنه سيتسلّم العرش من بعدها. وهنا يطرح السؤال: من قام إذا بتشويه تماثيلها وتدميرها؟ تساؤل يؤكد الدكتور دورمان «أن الدراسات الحديثة تؤكد أن ذلك حصل بعد فترة طويلة من بدء حكم توتموزيس الثالث، مما يشير إلى أنه ليس الفاعل». ويضيف دورمان إنّ مصير حتشيبسوت الذي لم يكن «مرفقاً» بقصة حبّ دامية لم يمثّّل مصدر اهتمام للسينما التي فضّلت أن تصوّر حياة كليوبترا، فرعونة مصر الثانية، متغاضيةً عن حياة الفرعونة الأولى التي غيّر حكمها تاريخ مصر القديمة وخلّدت اسمها بمعالمها.
ج. ب.