عمر نشّابةاصفرّ وجه «الخضرجي» الواقف خلف الميزان في محلّه الصغير عندما تغيّرت لهجة الشاب العشريني: «هيئتك يا حبيبي ما حتفهم الا بعد ما اسحبك عالمكتب». تكلّم بعد ذلك «الخضرجي»، مهملاً الزبائن وطالباً منهم العودة لاحقاً. لم يتوقّف حتى خرج محدّثه إلى الرصيف. بقي واقفاً بصمت، يستعيد أنفاسه ويتهيأ نفسياً للجولة المقبلة. شعر المحقق بأنه جمع المعلومات الكافية لكتابة محضر الاستجواب. الأجوبة سبقت الأسئلة. عاد بسرعة إلى مكتبه ودوّن المعلومات في المحضر، تاركاً مسافة خمسة أسطر فراغ بين الجواب والجواب حتى يتمكن من حشر الأسئلة فيها.
جمّع أوراق المحضر وطلب من زميله إحضار الموقوف. لحظات ويدخل الرجل إلى القاعة الصغيرة «هيك لكن... اتفقتوا تقتلوا الولدين وترموهم بالوادي». لم يتمكن الموقوف من لفظ الأحرف الأولى من جوابه. يعطيه المحقق قلماً: «تفضّل وقّع على إفادتك. يلّا خلّصنا بقا صارت الساعة 2».
يمرّ شهر يؤتى بعده الموقوف من سجن روميه إلى قصر العدل. «هل تؤيد إفادتك الأولية؟» يسأله قاضي التحقيق. لا يعرف الموقوف بماذا يجيب، فهو لم يطّلع على إفادته الأولية. يعيد القاضي السؤال نفسه. يحدق الموقوف بعيني رجل باللباس العسكري يقف خلف القاضي ويصرخ: «والله العظيم أنا بأمرك».
يعود القاضي إلى النصّ، يقلّب الأوراق وينتقل من ملف إلى ملف آخر ثم يدعو إلى إخراج الموقوف من مكتبه وإغلاق الباب. يضع القاضي رأسه بين يديه ويغمض عينيه. أمامه ما لا يقلّ عن خمسين ملفاً قضائياً. ويعود الموقوف إلى السجن، حيث سينتظر حتى السنة المقبلة أو ما بعدها ليحدد موعد محاكمته. قد لا يكون ذلك ضرورياً، فالإدانة بارتكاب الجرائم في لبنان تصدر قبل المحاكمة، ومن يعلنها ليس القاضي بل البوليس.
في السجون والنظارات تحشر الدولة نحو 5000 إنسان. أكثرهم موقوفون منذ أشهر وسنين بدون محاكمة، ومئات منهم موقوفون إدارياً. وكلّما أُثير الموضوع، يرفع بعض الضباط صوتهم ليقولوا: «ما بيصير، أنتم تشوّهون سمعة الأمن العام والأمن الداخلي والجيش والاستخبارات وأمن الدولة!» وكأن قيمة الجهاز الأمني وسمعته تفوقان قيمة كرامات الناس.