ورد كاسوحة*الأرجح أن كثيراً من الأصوات التي سوّقت في الصحف والمطبوعات العربية للنهج النيوليبرالي في السياسة والاقتصاد والثقافة سوف تخرج إلى العلن قريباً (وقد بدأ بعضها بالخروج فعلاً) معلنة تنصّلها كالعادة من «شبهة» التنظير الفكري والسياسي والاقتصادي للحقبة النيوليبرالية الأميركية. حقبة «توقّع» كثير من المراقبين الراديكاليين في جبهة «اليسار البائد» «اندثارها» معاكسين في ذلك مزاعم الرفاق السابقين (النيوليبراليين الحاليين)، نظراً لما شهدته هذه الحقبة من نزوع مفرط إلى العسكرة الإمبريالية المموّلة أساساً من جيوب دافعي الضرائب الأميركيين بما يفوق قدرة الاقتصاد الرأسمالي الأميركي على التحمل رغم فائض السيولة الذي كان ينطوي عليه ذلك الاقتصاد.
لكن ما «أربك» هذه التحليلات اليسارية و«فاجأ» أصحابها هو هبوب رياح الأزمة على الاقتصاد الأميركي من غير الجهة التي كانوا يفترضون بها ذلك، أي من غير جهة الاقتصاد الحقيقي المتمثل في صناعة النفط والتكنولوجيا والسلاح... ونعني بهذه الجهة طبعاً جهة الاقتصاد المالي القائم على المضاربات والرهونات العقارية وسوى ذلك من الفقّاعات المالية الوهمية وغير المستندة إلى أساس اقتصادي فعلي.
فقّاعات أظهرت بالدليل القاطع أن تعويل الكثيرين ومن جملتهم ليبراليونا الجدد على النسخة الأميركية البائسة من الرأسمالية كان في غير محلّه تماماً، ولكن دون أن يعني ذلك في حال من الأحوال تسليماً غير مشروط بسقوط النموذج الرأسمالي واندثاره ما دام البديل الممكن عنه غير قائم حتى الآن.
لذا يفضّل كثير من المراقبين الاقتصاديين توخياً للدقة وعدم الخلط نسب هذه الانهيارات المالية المتواصلة والمتفاقمة في البورصات وأسواق المال العالمية إلى طور محدد من أطوار الرأسمالية، هو الطور النيوليبرالي، الذي ألغى مفاعيل «الكينزية» الاقتصادية وأطلق الحرية الكاملة للأسواق عملاً بمبدأ «اليد الخفية». وهو مبدأ يقضي بترك الأسواق «تصحّح نفسها بنفسها» على ما يقول أرباب اليمين الأميركي المحافظ. وقد أفضى هذا «التصحيح» المزعوم إلى ما وصلنا إليه اليوم من أزمات مالية تكاد تودي بالاقتصاد العالمي لا الأميركي فقط وتدفع به إلى حقبة ركود جديدة وربما إلى أكثر من ذلك، أي إلى «كساد كبير» شبيه بأزمة عام 1929التي كان من نتائجها السياسية الكارثية حينها صعود النزعات الفاشية والنازية في العالم.
ولعلنا نستذكر في هذه المناسبة موقفاً مشابهاً اتخذه هؤلاء إثر انهيار منظومة الدول الاشتراكية التي كانت ترعاهم عملياً حينما كانوا جزءاً لا يتجزأ من عدّتها الديماغوجية و«الأيديولوجية» البائسة. حينها وبعدما انتقلوا مباشرة ودونما تمحيص نقدي يذكر من فيء النسخة الستالينية من الماركسية إلى مديح بيريسترويكا غورباتشيف، عادوا فور تهافت البيريسترويكا وسقوط صاحبها وانهيار الاتحاد السوفياتي السابق إلى التنصّل مجدداً من شبهة الانتماء إليها ــ أي البيريسترويكا ــ بعدما أهرقوا في امتداحها والتنظير» لهرطقاتها» أطناناً من الحبر. فقد ارتأوا في ذلك الوقت العصيب من التخبّط وضياع البوصلة أن أفضل طريقة «للاستقرار» بعد طول ترحال وتسكّع بين «الجبهات» الفكرية «المحتربة» هي مجاراة السائد والاستسلام للطروحات النيوليبرالية المعادية جذرياً ليس فقط للشيوعية السوفياتية البائسة والفقيرة معرفياً، بل لتراث اليسار والماركسية بأكمله (طروحات فوكوياما وهنتنغتون عن نهاية التاريخ والإنسان الأخير وصراع الحضارات).
الآن، وبعد نفاد الطبعة النيوليبرالية الرديئة من الرأسمالية يعودون مجدداً إلى سابق عهدهم في التنّصل من تنظيرات الأمس. صحيح أنهم لم ينكروا تماماً بعد تبنيهم للنيوليبرالية كنهج في السياسة والثقافة والاقتصاد، ولكن «ما يشفع» لهم (على حدّ قولهم) أنهم وقفوا من نهجهم ذاك «موقفاً نقدياً» غير مسلّم تماماً بالنزوع الرجعي والأصولي المتأصل فيه وخصوصاً في طبعته الوهابية.
لذا «يصحّ» فيهم القول إنهم كانوا يقفون إلى «يسار النيوليبرالية العربية» (وكأن
الأصولية النيوليبرالية تحتمل وجود اليسار أصلاً). وقد بدأنا نسمع في هذا الصدد «نقداً» مبطّناً من طرف هؤلاء لمواقفهم إبان حرب العراق ولتأييدهم غير المشروط حينها لإسقاط ديكتاتورية صدام حسين مهما كلّف الأمر وأياً كانت النتيجة، فالأولوية وقتها كانت لاستئصال البعث واجتثاثه بحسب نظرية بول بريمر التي أعادت إنتاج النزعة الفاشية في البعث العراقي على نحو مقلوب.
أما وقد وصلنا بعد احتلال العراق وتدميره وتذريره أهلياً على نحو غير مسبوق في التاريخ العربي المعاصر إلى ما وصلنا إليه، فإنّ «النزعة النقدية» لدى بعض هؤلاء النيوليبراليين لم تعد تحتمل مزيداً من الحماقات والأخطاء الأميركية. لذا فقد بادر
بعضهم ممن لا يزال يحسب نفسه زوراً على معكسر اليسار إلى اتخاذ خطوات استباقية تقطع الطريق على أرباب «اليسار البائد» المتلهّفين للحظة «انتصار» كهذه وتبدأ بتحميل الأكثر غلواً ويمينية بينهم ــ أي النيوليبراليين ــ مسؤولية «الانحرافات» و«الأخطاء» التي حصلت في الفترة السابقة بدءاً بالموقف المخزي من حرب العراق، مروراً بإثارة الهلع غير المحسوب وغير المنطقي من «حركة التشيّع» التي أطلقتها إيران في المنطقة منذ سقوط البعث في العراق (المواقف الأخيرة من دعاوى القرضاوي)، وصولاً إلى نقد الجشع الذي يزعمون أنه «حلّ فجأة» وبسحر ساحر على «وول ستريت» وأفضى إلى الأزمة الحالية في الرأسمالية العالمية.
لكن «النزعة النقدية» التي حلّت فجأة على هؤلاء و«دفعت بهم» عنوة إلى «مراجعة مواقفهم» من حرب العراق وأزمة أسواق المال لم تنسحب بدورها على مفاصل أخرى أساسية أسهمت في إيصالنا في الشرق الأوسط والعالم إلى القعر الذي وصلنا إليه.
فما هو موقفهم الآن يا ترى من حرب تموز 2006 التي لا يمكن في حال من الأحوال فصلها عن تداعيات حرب العراق والهجمة الأميركية التي صاحبتها؟ هل لا يزالون على موقفهم الرديء القائل بأنها كانت «مغامرة غير محسوبة»؟ أم أن «الانتصار» الموضعي الذي أفضت إليه بعد انتهائها وعودة الأسرى الذين شنّت لأجلهم الحرب قد أجبراهم على مراجعة هذا الموقف الذي اعتبره البعض حينها تغطية غير مباشرة للعدوان ورغبة مضمرة من طرفهم في التخلص لمرّة واحدة وأخيرة من فكرة المقاومة كما عبّر عن ذلك صراحة أحد أكثرهم «فطنة» وتأييداً «للنهج الساداتي» عقب أحداث أيار الدامية.
وماذا أيضاً عن الموقف من تداعيات الأحداث في لبنان منذ اغتيال رفيق الحريري وحتى اليوم؟ هل ما زالت شعارات «ثورة الأرز» صالحة للاستعمال بعدما اتضح المصير البائس الذي آلت إليه الثورات الملونة في العالم من جورجيا إلى أوكرانيا؟.
ألا يدفعهم سلوك ساكاشفيلي الأرعن والممالئ لإسرائيل والمصالح النفطية الغربية وكذا موقف يوليا تيموتشينكو الانتهازي والممالئ لروسيا ــ بوتين على حساب حليفها يوتشينكو الموالي للغرب إلى التمعّن قليلاً في بعض السيناريوهات اللبنانية المشابهة حيث المصالحات العشائرية والفوقية بين الأطراف المحتربة سابقاً وحتى إشعار آخر قد أودت عملياً بكل عناوين المرحلة السابقة بدءاً «بالقطع المبرم» مع نظام البعث في سوريا وحلفائه الأقوياء في لبنان، مروراً بتسويغ دبلوماسية القناصل والاستعاضة عن حكم عنجر السيء للغاية بحكم عوكر الأسوأ منه والأكثر رداءة (يروي نجاح واكيم طرفة في هذا الصدد حيث يقول إن غازي كنعان كان «يشاور» فوقياً البيادق في لبنان قبل أن يصدر قراراته، أما فيلتمان، فلم يكن يكلّف نفسه عناء المشاورات مع البيادق أنفسهم بل كان يصدر الأوامر مباشرة ثم «يحاور» على طريقة «نفّذ ثم اعترض») وصولاً إلى إسباغ هويات ضيقة و«فاشية» وطارئة على روح بيروت التعددية والناقضة أساساً لشعارات مبتذلة ورثّة من قبيل: «أهل بيروت» و«كرامة أهل بيروت» وكأن «مدينة العالم» بحسب ربيع جابر قد غدت حكراً على طائفة بعينها أو مذهب بعينه. ويبقى «الاعتذار» عن أحداث أيار الدامية واجباً على من توسّل العنف لتحقيق أهداف سياسية بعينها، بقطع النظر عن «مشروعية» هذه الأهداف أو «صوابيتها».
ينبغي القول ختاماً: إنّ المراجعات النقدية تفضي عادة وفي الحالات الطبيعية غير المرضية إلى تصويب الخلل الذي قد يعتري بعض المواقف من جراء الخطل أو الخلط غير المقصود وغير المتعمد بين نظريات معينة في السياسة والاقتصاد والثقافة.
أما أن نجري «مراجعات» مزعومة لنتنصّل من مواقف وآراء اتخذناها عن «قناعة» و«عن سابق إصرار وتصميم» بعدما وصلنا إلى خلاصة مفادها أن النيوليبريالية هي الحل وأنها سوف تجبّ حتماً ما قبلها وأن لا سبيل إلى مناهضتها بممانعات ومقاومات «عفا عليها الزمن» وأن لا مناص من التسليم بسلطة الرأسمال المعولم حتى لو ارتدى هذا الرأسمال شكل البترودولار النفطي المقيت وهو شكل معادٍ للثقافة النهضوية تعريفاً، فإنّ هذا النزوع لا يمتّ حتماً إلى المراجعات النقدية
المطلوبة بصلة بل ينتمي الى ذات «الثقافة» التي سقطت مع سقوط النسخة الستالينية من الماركسية، وها هي الآن تحاول عبثاً معاندة السقوط مجدّداً مع نفاد النسخة النيوليبرالية الرديئة.
* كاتب سوري