هشام نفاع*عبّر كثيرون عن مفاجأتهم بمّا «جرى» في مدينة عكا ليلة الغفران العبري قبل أسابيع. كثيرون، ومختلفون. أطرف (وأخبث) المفاجآت جاءت على ألسنة أصحاب الوظائف السلطويّة الإسرائيلية الذين فتحوا عيونهم المندهشة قائلين: كيف يمكن مثل هذا أن يحدث في مدينة يسكنها «التعايش»؟
أمامنا احتمالان: إما أن هذا غباء أو أنه استغباء. ومن الصعب الظنّ أن الثعالب الحكومية غبيّة، وإلا فلم يكن بوسعها اعتلاء مناصبها وظهور العِباد. الأرجح جداً أن هناك استغباءً. للعقول طبعاً. المشكلة أن ممارسة الاستغباء الحكومية تجد لها أرضاً خصبة حين تكون الغرائز قد طغت على العقول وابتلعتها. ولسطوة الغرائز بين الشرائح اليهودية الإسرائيلية نتائج متنوعة: خوف من العربي، كراهية للعربي واستعلاء على العربي. وحين تجتمع هذه الثلاثة معاً، يصبح من الصعب إطفاء الحرائق الناجمة عنها، برشّة ماء كلاميّة.
لا يوجد في عكا، ولا في غيرها، تعايش... في عكا عقود من المرارة والمعاناة منذ خرجت السفن عام 1948 حاملة المهجّرين من مينائها الخلاّب؛ منذ جرى حشر العرب في قفص الحكم العسكري في تعارض تامّ مع القانون الإسرائيلي المطبّق رسمياً على المواطنين؛ منذ تحوّل ملايين من أبناء شعبهم إلى ضحايا احتلال عسكري قمعيّ، أو لجوء قاس؛ منذ حُكم عليهم، كسائر أهلهم الباقين في وطنهم، بالقمع القومي والعداء العنصري؛ منذ صار هناك «عكا جديدة» وكأن القديمة قطعة من ماض غاب؛ منذ صاروا يُعتبرون (في بيوتهم وحواريهم وعلى شاطئهم وأرضهم) خطراً ديموغرافياً يجب مواجهته.
هذا ليس كل شيء طبعاً، هذه هي الخلفية العامّة، ويا لبشاعة العموميات. هناك تفاصيل «صغيرة» أخرى: هناك أحياء فقر يهودية، وخصوصاً في المدن التي يسكنها عرب ويهود، يهتمّ النظام السلطوي بألا تتحوّل المرارة فيها نحوه. ليس الأمر مؤامرة تفصيلية بالضرورة، لكنها محصّلة المصالح السلطوية المختلفة. فإلى أين يسيّرون الغضب؟ نحو العرب طبعاً، نحو البعبع العربي. هنا لا تعود العنصرية سياسة منهجيّة فقط، بل تكتسب تجليات شعبية جداً. ضحايا القمع السلطوي اليهود يتحوّلون الى أدوات بأيدي قامعيهم ضد أكبر ضحايا القمع. دائرة مقفلة من البارود.
هناك سلطة بلدية يثرثر أقطابها منذ سنوات عن الحاجة إلى «تهويد» عكا، وهنا جرى استجلاب زُمر استيطانية وأخرى يمينية عنيفة زادت من منسوب السمّ. ما معنى التهويد؟ معناه واحد لا غير: اقتلاع العربي وتهميشه، تهجير جديد.
هناك إذكاء لنزعات الإنغلاق والتعصّب الديني لدى الشرائح اليهودية غير البيضاء، فـ«أفيون الشعوب»، أي الدين خالياً من روحه، لا يتجاوز إسرائيل. وهو ما يتحوّل إلى عنصرية من نوع جديد، عنصرية دينية تُضاف إلى تلك القومية. وحين يتفاعل كل هذا وسط جوّ إرهابي دوليّ عام ضد الإسلام والمسلمين، يتحوّل يوم الغفران إلى طقس وثنيّ لا أقلّ، وبدلاً من أن يُمارَس فيه الغفران، بحسب الموروث الديني اليهودي، تُمارس فيه أعمال جنائية تتمثّل بفرض إكراه عنيف حتى على محركات السيارات (في إسرائيل «الغربيّة العصرية!»).
ثم تأتيك شرطة إسرائيل لتعتقل السائق العربي الذي قاد سيارته فتعرّض لضرب وركل وحشيّين، بتهمة «المس بالمشاعر الدينية». لا حاجة إلى القول إنه لا يوجد بند في القانون الإسرائيلي يجيز هذا الاعتقال، ولكن هذا ما يحدث لدى شرطة باتت تمثّل ممارساتها نفسها أكبر خطر على حكم القانون في هذه الدولة.
وهذا ليس كل شيء. هناك نموذج مدينة يافا الذي يُسيل لعاب قروش الأموال والعقارات ومُدّعي الفن. هؤلاء اقتحموا يافا وحوّلوا أجزاءً منها إلى مقاطعات ثريّة مغلقة مسوّرة يتمتّع محتلوها بالعيش في فضاء معماريّ خلاب، لكن بعيون وقلوب وضمائر منغلقة عن فضاءات القمع والفقر اللصيقة! عكا القديمة العريقة هي الآن الفريسة الجديدة التي تنظر إليها بنهم تلك الطفيليات الرأسمالية.
هناك محاولات مستميتة لشراء بيوت في قلب عكا بما يشبه زحف الأفاعي الصامت، نحو تقويض وجود المدينة ووجود أهلها من الداخل.
من يرَ هذه الصورة المركبة لن يُفاجأ بأن ألسنة النيران وصلت ذلك العلوّ في عكا. ويجب الاقتراح على دجّالي التفاجؤ الكاذب من سلطويّي إسرائيل، أن يستعدّوا لمفاجآت أخرى في غير عكا، لأن ما حدث هنا هو مجرّد صورة مصغّرة ومكثفة لما هو آتٍ إذا ما مضت الزّمر التي تحكم هذه الدولة في غيّها.
نحن العرب الباقين في وطننا لا نضمن حدوث تحوّل في سياسات السلطة الإسرائيلية. ولذلك، فليس أمامنا سوى الحفاظ على أنفسنا بصمود ومواجهة وبرؤوس مرفوعة وإصرار على الحق والأمل كما يليق بأهل الوطن. لا مكان ولا وقت للتذمّر ولا للشكوى ولا للاستعطاف والاسترحام. فالتاريخ الذي راكمناه في «التجربة الإسرائيلية» علّمنا درساً واحداً: الصمود ثم الصمود ثم الصمود. جزء من هذا الصمود الآن هو الوقوف إلى جانب أهل عكا، في حواريهم وأسواقهم، ودعمهم بالقول وبالفعل لتهشيم الحصار الاقتصادي الهمجي المفروض عليهم.
سنظلّ نغني مع العكاوية حتى في أشدّ ساعات الألم أغنية فرقة «ولعت» من شباب المدينة: «لو شربوا البحر، لو هدّوا السور، لو سرقوا الهوا أو خنقوا النور، ما ببيعا لعكا بالدنيا كلا، ما ببدّل حارتي ولا بقصور».
فقد سبقنا من قالوا ساخرين / جدّيين بحكمة العراقة والنفس العالية والكرامة الوطنية والإنسانيّة: «يا خوف عكا من هدير البحر».
* صحافي فلسطيني