سعد اللّه مزرعاني*بعد انتظار أملته تدابير أمنية مفهومة، دخل الرئيس هوغو تشافيز، متأبطاً ذراع فتاة شابة. عرفنا في ما بعد (نحن الغرباء عن المكان)، أنها ابنته وشريكته في العمل وفي المخاطر مارينا! ملامح الرجل أقل قسوة مما تظهره الصور والشاشات. ويصبح ذلك أكثر وضوحاً حينما يقترب منك أكثر، مصافحاً، إذ يطفو على ملامحه شيء من الخفر والهدوء الذي لم يميز أبداً لقاء الساعات الست التي أمضيناها مستمعين له ومناقشين، في إحدى قاعات فندق «الألبا»، وهو الأكبر في العاصمة الفنزويلية كاراكاس، في 16 من الشهر الجاري.
لا يشبه تشافيز إلا نفسه. هكذا بدا في ذلك اللقاء الطويل، وهو يتحدث ويمازح ويقرأ في كتب كثيرة أمامه... وكذلك، وهو يستقبل تباعاً أوراقاً يمررها مرافقوه أو حراسه أو ابنته، تتناول شؤوناً مختلفة، كان معظمها مصدر حبور وفرح كبيرين لم يخفهما تشافيز إطلاقاً عن ضيوفه ومحاوريه.
أما الأمر الأول الذي أطلق حماسته إلى الحد الأقصى، فكان أخباراً جيدة عن أداء فريق بلاده لكرة القدم، في لقاء ودي مع الفريق البرازيلي. وكان الخبر الثاني، من طبيعة مختلفة، لكنه أيضاً، كان مصدر ارتياح لا يوصف للثائر الفنزويلي! «حسناً أيها الرفيق بوش»، قال تشافيز فوراً: أضاف، «تصوروا، صار بوش رفيقاً... هو يستطيع لو كان هنا أن يجلس إلى يساري، ستسمح له، طبعاً، يا فاروكو (وزير الإسكان الفنزويلي الذي كان يجلس إلى يساره)». وتابع: «يواصل بوش وإدارته ما يشبه عمليات تأميم المصارف برافو! ألم تقاتلنا من أجل أمور شبيهة أيها الرفيق بوش»!
كان الرئيس يتحدث عن هذه المسألة بثقة وبشيء من الافتخار، وحتى، بشيء من التشفي. وربما كان من حقه أن يفعل. فالأميركبون يواصلون حربهم عليه. ولا يُستثنى من هذه الحرب السعي لمحاولة تصفيته جسدياً. حصلت محاولات عديدة لهذا الغرض. وقانون «المواطنة» (Patriot act) الصادر بعد تفجيرات أيلول عام 2001، وكذلك تشريعات أخرى، أطلقت يد أجهزة الأمن الأميركية، وحتى السفارات الأميركية، في تصفية الخصوم، ولو على سبيل «الوقاية»، كجزء من شكل من الحروب، حمل أهمها هذا الاسم أيضاً: «الحرب الوقائية».
والرئيس يقرأ! لقد حمل معه خمسة كتب جديدة (وزعت نسخ علينا منها، بالإسبانية). وهو يحاول أن يؤكد للحاضرين والمشاهدين، أنه قارئ ممتاز. بل هو ألحّ على هذه المسألة تكراراً. نسب إلى سيمون بوليفار الثائر الكبير الذي تلهم تجربته ومشاريعه وإنجازاته ثورة شافيز، أنه كان يقول «من لا يقرأ لا يبصر».
واصل الرئيس استحضار جمل أو أفكار لماركس وإنجلز وماو وفيدال... وخصوصاً هذا الأخير. وكدت شخصياً أتذكر طريقة المواطنين السوريين في ترداد كلمة «عراسي»، (في كل مرة يحاولون فيها التعبير عن الاحترام والتجاوب) عندما كان محدثنا يرفع يديه مؤدياً التحية إلى مرشده ومعلمه الرئيس الكوبي المتقاعد (رسمياً) فيدال كاسترو. لم يكن تشافيز يتملق فينا محبتنا لفيدال كاسترو أو لسواه. على العكس، فقد كان يتحدث «على الهواء»، وأمام ملايين المشاهدين في بلاده وفي كل القارة الأميركية اللاتينية الساعية إلى التحرر والتغيير... وكان مغموراً بسعادة ذلك الذي يجهد من أجل أن يكون تلميذاً نجيباً لهؤلاء المفكرين والثائرين العظام.
إنه «شبح البيان الشيوعي» يحوم الآن حول قارتنا، قال! استحضر من مقدمة «البيان الشيوعي» الشهير تلك الجملة الاستهلالية وكررها مراراً. ما يحصل معه وله، ومع زملائه ولهم في حركة التغيير في القارة، هو بالنسبة إليه (هو على الأقل) شبح الشيوعية الذي أشار إليه ماركس وإنجلز عام 1848!
أمّا الاشتراكية ذاتها فصيغة «نصنعها نحن»، قال. كان قد سبقه إلى ذلك أيضاً، بشكل ما، وفي ظروف ثورة رائدة وتجربة أولى، لينين: «الاشتراكية تساوي كهربة البلاد».
اشتراكية تشافيز تساوي الآن: محو الأمية لحوالى مليون ونصف من السكان، وكذلك تأميم ثروة البلاد الهائلة من النفط (التي كان ينهبها بغير رحمة الأميركيون ووكلاؤهم المحليون)، وبناء المستشفيات والطرق والسيطرة على «العملة الصعبة»... هذه هي بعض أبرز خطوات «الثورة البوليفارية» على طريق الاشتراكية.
قال ضيف روسي من زملائنا الحاضرين في نطاق «الجمعية العامة للمنتدى العالمي للبدائل» التي ينسق شؤونها الباحث والمناضل الماركسي سمير أمين: أود أن أشير إلى أسباب سقوط الاتحاد السوفياتي. أولاً، لقد قدموا للشعب اشتراكية منفّرة، والاشتراكية يجب أن تكون جميلة. كانوا يقولون في كل المناسبات: شكراً أيها الأمين العام، لقد بنيت لنا المدارس والمستشفيات والشقق، وكرّسوا بذلك عبادة الفرد. مارسوا القمع وتنكروا لحق الشعب في الديموقراطية ولتقاليده وتراثه الروحي...
لم يظهر الانفعال على الرئيس. دافع عن تجربته بأن ذكّر بأنه أجرى حتى الآن 13 استفتاءً وانتخاباً منذ 10 سنوات حتى اليوم. مرشحو حزبه الجديد (الحزب الاشتراكي الفنزويلي، وهو صيغة أرادها لصهر كل الأحزاب اليسارية في حزب واحد، فلم يفلح في ذلك) ينتخبون أولاً، بالاقتراع السري في الحزب ولا يسمّيهم هو.
لكنه، هنا أيضاً، يعود إلى معلمه فيدال «لقد ناقشت هذه الفكرة معه. أخبرني أنه حارب عبادة الشخصية طيلة 50 عاماً! سأفعل ذلك أنا أيضاً!». تذكرت حينها نكتة منسوبة إلى ماركس الذي تباهى بأنه اكتشف طريقة فعالة للامتناع عن التدخين، وهو قد جربّها بنجاح تام 10 مرات متتالية حتى الآن. حاول تشافيز بشكل ما إيجاد صيغ قانونية لاستمرار ولايته بشكل غير محدود، ولم يوفق إلى ذلك في الاستفتاء الذي أجراه لهذا الغرض، هذا فضلاً عن ثغرات معروفة ولا يجوز إخفاؤها، في التجربة الكوبية نفسها.
عناوين النقاش في «ديوانية تشافيز»، بدت، بحق، اختباراً عملياً حياً لنقاش كان يدور في الأيام الخمسة الغنية من لقائنا في العاصمة الفنزويلية. كثر، وخصوصاً من المصريين، استعادوا في تشافيز ملامح تجربة (وحتى شخصية) جمال عبد الناصر. المقارنة مشروعة، بمقدار ما هو ضروري رؤية تغير العوامل الموضوعية منذ الخمسينيات والستينيات (باندونغ)، حتى أيامنا هذه، إلى الفوارق الشخصية بين القائدين.
تشارك الجميع ممن استمعوا إلى الرجل يؤكد أن الملكية الاستراتيجية للأمة وللشعب، يجب أن لا توضع في يد أفراد، في التعبير عن الإعجاب بالرجل. ارتاحوا لما فعل ويفعل، لكنهم عبروا أيضاً، عن الخشية من أن يصيبه مكروه أميركي ـــ بوشي ما: اليوم أو غداً، وأياً كان الحاكم في البيت الأبيض!
ما يحصل في أميركا اللاتينية، هو حركة احتجاج هائلة، لتشافيز دور عملي لا يخفى في إطلاقها، بمقدار ما لفيدال كاسترو دور معنوي في تحفيزها. أما الضمانة فليست موجودة بعد. «الحزب الاشتراكي» الوليد تجربة تذكّر بالاتحاد الاشتراكي الذي أسسه القائد الراحل جمال عبد الناصر، ولا تنسخها بالضرورة. الضمانة في الرجل أنه على يسار الجميع. يفاجئ حتى أكثر الثوريين واليساريين تفاؤلاً واندفاعاً. الآن، يقف الجندي الفنزويلي ويؤدي التحية اليومية: «الاشتراكية أو الموت».
الثورة في تلك البلاد التي كانت منسية تجاوزت فعلاً مسألة شعارات يرددها ضابط يسعى إلى السلطة، وينساها في اليوم الثاني لتسلمه مقاليدها. تشافيز رجل جاد وشغوف. وهو ثائر حقيقي يدرك بأشكال مختلفة من الوعي والتصميم والمثابرة، أنه يؤدي دوراً تاريخياً يتجاوز بلده الغني وشعبه الجميل واللطيف.
وفي أساس هذا الدور إنجازات حقيقية لمصلحة بلاده وشعبه. هذا ما يدركه خصومه، وهذا ما تدركه خصوصاً، الملايين من أبناء فنزويلا ومحيطها، وتحديداً منهم أولئك الذين يقيمون في هضاب «الصفيح» وجباله وتلاله الهائلة والبالغة الفقر والحارسة للعاصمة الرائعة الطبيعة والموقع كاراكاس.
إنها حكاية تمايز وصراع طبقي لا يخفيان. هذه هي الضمانة، أي فقراء فنزويلا ووطنيوها، الذين يبقى أمر مشاركتهم وتنظيمهم عبر جبهة واسعة ربما، مطروحاً بكل الجدية المطلوبة، لكي لا تضيع التضحيات، ولا تتكرر البروفات الفاشلة والمأساوية، فيما إمكان النجاح موجود فعلاً!
* كاتب وسياسي لبناني