في خارطة ليل بيروت تحتل حانة «البلو نوت» موقعاً متميزاً، إنها جزء من ذاكرة شارع المكحول، ومكان يقصده المثقفون والفنانون وعشاق موسيقى الجاز. صُمم المكان ليكون بيتاً، وشاءت الأقدار أن يصير حانة و«حالة ثقافية» تجمع «أصدقاء» من كل الاتجاهات
سارة أسعد
عندما تبحث عن تاريخ شارع المكحول الهجين، ستجد في البلو نوت، في ذاكرته، وعلى جدرانه الكثير من حكايا الشارع.
إنه حانة، كناد متماهٍ مع نفسه إلى حدّ الثبات، كل حائط وكلّ زاوية في المكان تحفظ تاريخ ليلة من لياليه وممّن أشعلوا السهرة فيه. تأسست البلو نوت عام 1987، في وسط مدينة التناقضات والسّهر، عندما كانت الأحياء ترقص على وقع موسيقى مألوفة جدّاً، إيقاع رصاص وانغماس الجميع في الجنون. بيت صغير جمع مثقّفين وفنّانين، وبسبب قربه من الجامعة الأميركية كان له أثر السّحر. طلّاب وأساتذة وروّاد من كلّ المناطق تذوّقوا سويّة هويّة مكان جديد فيه «الموسيقى والطعام والجو النّظيف». ارتبط اسم البلو نوت بموسيقى الجاز، وذلك مع استقدام الفرق الأميركية من بلو نوت نيويورك ومن أوروبّا ونيو أورلينز، واكتظ المكان أحياناً بمحبّي البلوز للتّعرّف إلى موسيقيين عالميين تركوا صورهم على الجدران أمثال كاثرين كارترايت، وميليسّا والكر، وتيكس الّين، ومارتن جاكبسون، كلّ يضيف نكهة خاصّة من مدينته ومن تاريخه إلى الحانة البيروتيّة.
بعد حين صدر «قرار» جديد، لمَ لا تكون للموسيقيين اللبنانيين حصّتهم من المكان والجمهور عبر المشاركة في عروض الفرق الأجنبية، هكذا يتركون بصماتهم في هذه «الحالة الثقافية» العابرة للهويّات وللحدود الجغرافية الضيقة. نذكر من اللبنانيين الكثر وليد طويل، وارتور ساتيان، وجويل خوري، وهاني سبليني، وآفو توتنجيان، وعبّود السعدي، وأميل بستاني، وتوفيق فروخ، وحاليّاً شادي ناشف، وشربل روحانا وموسيقى شرقية، فرقة إيلي برّاك وكاثي بأغاني فيروز ورباعي جيريمي للجاز والبوب.
تجدر الإشارة هنا إلى أثر بعض الضّيوف المميزين الذين أضفوا سحرهم الخاص على هويّة المكان، حلّ زياد الرحباني ضيفاً على الفرق، والرّاحل الكبير إيلي منسّى عازف الترومبت، الحاضر دوماً في بال الزوار القدماء، بقامته المهيبة وشخصيّته الموسيقية الاستثنائية.
تقدّم الحانة قائمة طعام من الأطباق اللبنانية و«المازة»، بالإضافة إلى أطباق عالمية بجودة عالية ونكهة مميزة تحمل الزّائر على العودة إلى البلو نوت. أمّا الزبائن المنتظمون، فإلى الموسيقى والعلاقات الودّية القائمة بينهم وبين «فريق» البلو نوت، يضاف تفصيل آخر يحمل على العودة إلى المكان: إنها الأطباق التي أحببناها منذ عشر سنين، هي نفسها نتذوّقها في كلّ مرّة، بالكمّية الصّحيحة والنّكهة التي «على البكلة».
يتحدّث خالد (المالك) عن البلو نوت بفخر وبسمة تفسّر تعلّق الجميع بهذا المكان المميّز، «الكل هنا أصدقاء، الهدف أن نخلق ملتقى للمفكّرين والفنّانين والمثقّفين من كلّ الاتجاهات والمجتمعات في قالب عالميّ هنا في الحمرا». يصرّ خالد على أنّ المكان هو الأوّل في المكحول والوحيد الذي حافظ على المستوى نفسه من جودة الخدمة ونوعيّة الموسيقى خلال أكثر من عشرين عاماً، أصبح خلالها مقصداً ليس فقط لروّاد الحانات البيروتية، بل للأجانب الذين يرحلون محملين بذكرى جميلة عن حياة الليل في بيروت. أما الموسيقيون الذين مرّوا في بلو نوت فقد «أصبحوا من العائلة، يمثّلون مزيجاً رائعاً من الأذواق والأجواء المتنوّعة تماماً كبيروت».
رغم وضع البلاد الاقتصادي والسياسي المتقلّب، ما زال البلو نوت «في طليعة الأماكن المفضّلة في المدينة»، تستقبل شرائح مختلفة من الناس وتقدّم خدمة سعرها «مقبول» نسبيّاً مقارنة بالحانات العريقة الأخرى. إنما يبقى لخالد عتب خجول على وزارة الثقافة اللبنانية التي لا تدعم الحانات أمثال بلو نوت، وهي من أبهى مظاهر الحضارة ومقصد للسيّاح الأجانب.
نعمان مدير الصالة، المبتسم دوماً، يقول: «البلو نوت حياتي، ما في شي تاني أبداً...» فعندما يساهم الموظّف في بناء المكان حجرة حجرة، ويرفع على جدرانه لوحة تلو الأخرى، يمسي للموقع الجغرافي بعد وجوديّ بالنسبة إليه، يشعر بالانتماء، والأمان في نسيج متكامل من الحياة الاجتماعية. لمسة نعمان في البلو نوت واضحة، فهو الخبير الذي يعرف تماماً الحدّ الفاصل بين عناق الزبون ـــ الصديق وفتح الباب له، يعرف متى يسأل الزبون عن الأهل والأحوال، ومتى يجب الانسحاب ليترك للزائر «مساحة الخصوصية».
إذا سألت نعمان «ماذا لو لم يعد البلو نوت موجوداً؟» فإنه يظنّ الأمر من ضروب الجنون المستحيل، ثم عندما يتأكّد من جدّية السائل «السئيل» يتبسّم ويجيب سريعاً «منرجع منعمل بلو نوت».
سليم هو الرّجل «الجدّي» دوماً، المتمركز وراء منضدته، والمحتمي من متغيّرات الوقت بثقة السّاقي «الأصلي»، سليم لا يستفيض في الكلام. يذكر فقط بأنّ الأيام تغيّرت وقد ملّ النّاس واللّيل، لكن البسمة تخونه، مع دخول أوّل صديق إلى الحانة.
متعة غريبة تنتاب زائر البلو نوت، كأنها نوع من العدوى المحمودة، تنتشر رويداً رويداً في عروقه حتّى يصير جزءاً من المكان، يقيم سهرة عرس فيه، أو يأتي إليه بلوحة يعلّقها عندما يعود من السّفر. يعود باحثاً عن الشعور ذاته الذي «متل أوّل مرة»، فلا يجده بالطعام ولا بالكأس ولا بالموسيقى، بل في روح الأماكن التي تصبح كالعشيق السري، وروح البلو نوت حلوة وعائليّة. إنّه ما بقي لنا في شارع المكحول من الجمال الذي يظلّ صورة سحريّة عن بيروت الغانية الحزينة التي يُغرم فيها الجميع لسرٍّ لا يُعلن بكلمات.


موعد مع Jeremy Jazz Quartet

هل سمعتم عن «Jeremy Jazz Quartet»؟ اذهبوا إلى البلو نوت، وستتعرفون إلى عازف الساكسوفون الأميركي جيرمي شابمان وزملائه اللبنانيين. الفرقة ضيفة على الحانة البيروتية في ثلاث حفلات، وقد أحيت بالفعل حفلتين مميزتين أمس والاثنين 17 تشرين الأول... إذاً لا تفوتوا الموعد الأخير يوم الجمعة 31 الشهر الجاري.
وبعد، ستتوالى المواعيد على أجندة البلو نوت، الموسيقى ستملأ المكان، وما على محبي الجاز سوى أن «يطلوا» إلى الحانة بين وقت وآخر ليسألوا عما ستحمله «السهرات المميزة».