أنسي الحاج
كلام
يستعمل بعضهم كلمات يظنّها تزيد في توضيح معناها: التوصيف محل الوصف أو التشخيص، تَمحورت محل دارت أو تركّزت أو انصبّت، النظاميّة الرأسمالية محل النظام، المشروطيّة ويريد الشروط أو الأشتراط، الاحتماليّة والمقصود الاحتمال أو الاحتمالات، رَفْع الصوت عالياً، وهل يرتفع إلا عالياً؟ الإشكاليّة ويريد المشكلة أو القضيّة أو المسألة ـــــ فللإشكاليّة معنى آخر قلّما يُراد هو نفسه بالكلمة المستعملة، وهي، حتّى في أصلها الفرنسي، مشكوك في ضرورتها، إلا لدواعي الاختصاص الألسني.
ومن التقليعات المضحكة «الدفاع عن الرأي والرأي الآخر». يُراد حرية الرأي. ليس هناك «رأي آخر» واحد في نظر الحريّة، هناك آراء إلى ما لا نهاية. عندما نرسم للحريّة حدّها بـ«الرأي الآخر» نسجنها ونلغيها.
ومن المزايدات «الموضوع الرئيس»، وكيف يصبح الشيء رئيساً وبالكاد الأشخاص رؤساء. وقد بات جميع الرؤساء إلا واحداً مرؤوسين. وماذا يشكو «الموضوع الرئيسي»؟
ناهيك بكلمات موجعة من طراز تضاريس، تخرّصات، إرهاصات. أما «حِكْر» فتستحضر «حَكْش»، ولا لزوم لها بوجود «وَقْف»، أو احتكار، أو امتياز، أو إقطاع. المفردات السلسة متوافرة إلا لمَن يستطيب الإزعاج، وهؤلاء قيّمون للأسف على معظم صفحات الرأي السياسي والمنابر التلفزيونيّة، ورث العديد منهم قاموس منظّمة يسار ثريّ حرب في الثقافة، وثريّ حرب في الثوريّة، وهو قاموس في طليعة منجزاته تلك العبارة المفعمة بالروائح: «الأرضيّة المشتركة». ولما دخلت تقليعات البنيويّة والألسنيّة الفرنسية تأمّنت ثالثة الأثافي تحت غطاء الحداثة.
في الماضي قَتَلَ النضال اللفظي النضال الفعلي. مبدئيّاً كان يحصل العكس: الفكرة تبتكر المثال ويتولّى التنفيذ الفعلي قضمها وتشويهها. إلى أن راح النضال الفعلي يتشوّه من تلقائه ويتقلّص لحساب الخطاب الإنشائي واللغوي، فبات ثمّة أودية بين الفكرة والتنفيذ قوامها الكلام. وسيط استمنائي.
قد يكون موقف كهذا الذي نبديه نوعاً من العنصريّة. مثل كلّ موقف مستوحى من التحسّس الذوقيّ لا من انسداد شرايين الذوق. لا بأس بعنصرية تَكْرَه ما ينفِّر ولا تَقْتل أحداً. تُسْتَنفر دفاعاً عن المتروك مكشوفاً أمام اندفاعات سنوبيّة لا يُنَقّيها غربال ولا هادي لها غير وقاحة نرجسيّتها.

يَرْكَب الانحطاط مركب التقدميّة مُلَفْلَفاً بادّعاء الانتيلكتواليّة العقلية الذهنية، مقدّماً نفسه نهجاً علميّاً تحليليّاً يُحلّ الذكاء والمعرفة محلّ الحسّ والحدس والجماليّات. ينسب نفسه إلى الديموقراطيّة، أي حيث المقاييس المختلطة والملتبسة تحمي ضحالته، لا إلى المعاناة الكيانيّة ولا إلى الموهبة ولا إلى «الأدب»، فهذه في نظره أرستقراطيّات بائدة، وقواميسها محنّطة، وتراجعها أمام «النحت» اللفظي الجريء دليل تخلّفها، وكراهيتها للاشتقاقات المستحدثة علامة من علامات انكماش القديم حيال غزوات الجديد. في هذا بعض الحقّ، لولا أنّه يغفل كون التجديد الذي جدَّد اللغة هو ذاك الذي لم ينقلها من لطيف إلى ممجوج بل العكس، وهو التجديد الذي أغناها ولم يُحمّلها حشواً يبرهن على عجز صاحبه لا على عجز اللغة قَبْله. أوّل شروط التجديد هبّات الهواء التي يحملها إلى الدار لا موجات الخَنْق. الشفافية ضدّ السماكة. ضوءٌ يدخل لا عتمة تُسْدَل.

الكلمة تَقْتل. لا بالتحريض على القتل بل بالاعتداء على محلّ فيك يعرف أن هذه الكلمة، هذا الكلام يرميك بماء الفضّة بينما أنت كنت حاضراً لاستقباله بالأحضان. لماذا يكون القارئ أفضل من الكاتب؟ ليس هناك أظلم من ثنائيّ كهذا. أليس المفروض العكس؟ مَن هو هذا الذي يستفردني ويتمقطع بي؟ وهل يحسبني ببشاعة ذوقه حتّى يأخذ راحته معي وكأنه متأكّد سلفاً أن الآخرين جميعاً، تحت، ممحونون مثله إن لم يكونوا أمْحَن منه؟
بالكلمة نقصد كلّ شيء: الأسلوب، المفردات، التفكير، إلخ... يظهر الواحد من كتابته ومن كلامه أكثر عرياً من العري، تَظْهر عِقَده وأراضيه السفلى وجوف أراضيه وسماواته وأقاربه. يَظْهر جنسه وميوله وممارساته. تظهر رائحته. تقرأ رئتيه وأحشاءه وكفّه وقَدَرَه من لغته. تقرأ دينه ودين أبيه. تقرأ لون عينيه. لو درى الكاتب ذلك لارتبك قبل أن يُقْدِم. ولكان ذلك أقلّ وبالاً على الجميع.

على الشاشة يتعاظم الوَقْع. يزدوج القول بالشكل بالحركة بالصوت. بعض التلفزيونيين تشتهي قَتْلَهم من مقعدك بالريموت كونترول. وبعض التلفزيونيّات. الأصوات الحادة الجارحة. الادّعاء، الانتفاخ، الهَرْقَة. الذين يتابعونهم معلّقين في الصحف يتكيّفون معهم. جمعيّات أهليّة تستمدّ قوّتها من انغلاب الجمهور على أمره ومن كونه أساساً أرضاً خصبة. «نقّاد فنّيون» يستعيرون وجودهم من وجود لا يبرّره شيء.

الموضوع في الحقيقة ليس اللغة، الباب مفتوح دوماً للاستيعاب والتعريب والاشتقاق. طبيعي. الموضوع هو موقف الكاتب نفسيّاً وجماليّاً من اللغة، من نفسه وممّن يطالعه. اللغة هي ما تَصنعه منها. وما تصنعه منها هو أنت، قرارتُك، جَبْلَتك الحقيقيّة. ليس رسولك صوتك الانتخابي ولا حتّى صوتك الحنجري بل كلامك، كلامك المكتوب خصوصاً. يقول الروائي الكونغولي سوني لابو نانسي (1947 ـــــ 1995): «أفهم لماذا خشي الأفارقة اختراع الكتابة: إنهم أذكى منها». كلامك رسولك وخائنك. لا تأمَنْ له بلا عصا. احملْ عصاك واتبَعْها.
في البدء لم يكن الكلمة بل الانطواء على الكلمة. الحالة السابقة للظهور، الظهور الممهّد للارتطام، الارتطام المسبّب للجرح، الجرح الجالب للهلع، الهلع للفوضى، الفوضى للتدحرج.
حين نتكلّم يجب أن ندفع ثمن تمزيق السكوت، فلنحاول التخفيف ما أمكن من فداحة الكلام...

قسوتان
القسوة نوعان: قسوة عديم الشعور، حيث تتساوى الفظاظة والفظاعة، وقسوة المرهَف، التي وإنْ بلغت أشدّ الساديّة، يظلّ فيها نبلٌ رافع رأسه بنظراته الباردة... ما لم تتقبَّح بنشاز.
قاسٍ وَزَنَ مسافات عدمِه فأدركَتْهُ الشفقة، شفقة عِوَض أن ترقّق الطبع تُجلّفه، لأنها تربأ بنفسها وبذات الآخر تمييع الوقفة أمام الوجود، وترفض أن تدع موجة تُفاجئها فتَغْرق.
وكلّها أغلفة، وما بداخلها ليس بأجمل منها... رفقاً بالأغلفة.


اسألْ

زدْنا فناءً فيك، الروح أقلّ منك
أيّها الهواء
اسألْ، تفقَّدْ مواطنيك
لا تَنَمْ حين ينامون!
■ ■ ■
الصغير الهواء
لَعوب السماء المُهَدْهِد
إنْ نسيتكَ الأنفاس فلأنّك نَبْعُها.
اذكرْ عهدك يا هواء
بعد النَفَق كنْ أنت
أنت هو الأربعة!
أيّها المدهش الهواء، أشْبَهْ صراخ الحاجة إليك
لا تَهمس، تعال، اعصفْ
انهمرْ
ولكن... مَنْ يُصدّق الهواء؟