كان يحلم بالطيران، إلا أن الحرب أتت لتبدّد أحلامه في أن يكون «كابتن» إحدى طائرات «الميدل إيست». لم ييأس سعد عيّاد، بل عاد إلى مهنة تعلّمها باكراً في شبابه: «الرتي». بعد سنوات قليلة تحوّلت مهنته إلى جزء أساسي من هويته، ليصبح اسمه «الرّتا سعد»
ليال حداد
بدأت قصة سعد، قبل سنوات طويلة، أكثر من أربعين سنة، حين أخذه أحد أقاربه إلى متجره لرتق الثياب في سوق البازركان في البلد وعلّمه أصول المهنة. كره سعد الصغير تلك المهنة يومها، «بتضيّق الخلق» قال، ثم أردف: «وكثير صعبة». تركها مرّات كثيرة، وعمل في مجالات مختلفة، ليعود إليها «بسبب قلة القيمة والبهدلة» في المهن الأخرى. مرّت السنوات وبقي سعد في مهنته التي أحبّها مع الزمن، من دون أن ينسى حلم «الطيران» وحياته «المفترضة» لو لم تندلع الحرب وتحوّل طموحه إلى أحلام في الهواء «كل شيء، كل حياتي وحياة أولادي كانت لتكون مختلفة، ولكن هذه هي الحياة، وعلينا أن نرضى بما تقدّمه لنا».
ومن بين أحلام «الرتّا» كانت الحياة في الخارج، وهو حلم حققه أثناء الحرب الأهلية، حين غادر مع عائلته إلى الدنمارك، «هونيك الإنسان إلو قيمة»، إلا أن فرحته لم تدم، إذ عاد لأسباب «لن ندخل فيها الآن». أما مهنته؟ فلم يمارسها في الخارج، إلا في الفترة الأخيرة من إقامته.
تبدو ملامح الندم واضحة على وجه سعد في أثناء حديثه عن أوروبا وعن الدنمارك تحديداً «ارتكبت خطأً كبير جداً بالعودة إلى بيروت، إلا أن الظروف فرضت عليّ ذلك».
هنا، في الشارع المعروف بـ«نزلة الحصّ» الجميع يعرف محل «الرتّا». الجميع يحبّ الرجل المبتسم مهما ساءت الأوضاع الأمنية والاقتصادية. «كلنا بالهوا سوا، يعني بس تسوء الأوضاع كل الناس بتتأثّر ونحنا أكتر شي. عشان هيك النق ما بفيد»، هذه هي طبيعة الرجل، المتفائلة دائماً رغم أن الحياة لم تكن يوماً سهلة «الحسابات ضرورية في كل مراحل الحياة، ففي يوم قد يكون المدخول 50 قرشاً، وفي أسبوع كامل قد لا يتعدى خمسة قروش». القرش يعادل الألف ليرة في لغة سعد، الذي لا يزال «يسعّر» بالعملة القديمة مع إدراكه التام أن زبائنه يفهمون المقصود.
إلا أن مزاج الرجل «الرايق» في أغلب الأحيان لا يمنعه من وضع حدٍّ للزبائن الـ«بلا أخلاق».
ومن بين هؤلاء الزبائن، يتذكّر حادثة واحدة «طلع فيها صوتي» حين طرد إحدى النساء التي أتت تشتكي بعد شهرين من رتق فستان زفاف ابنتها من أن النتيجة لم تكن كما تتوقعها. «اتهمتني بأنني درزت الفستان ولم أرتقه، وبدأت تصرخ وتطلق الشتائم»، لم يحتمل سعد الإهانة، فاقترح عليها عرض الفستان على «رتّا» آخر للتأكد من جودة عمله، وعندما رفضت، طردها من متجره. ولتأكيد كلامه يشير الرجل إلى داخل محلّه الصغير، «كما رأيت، لا ماكينة لدي لدرز القماش، وطلبت من المرأة أن تتأكد من ذلك بنفسها».
هكذا لا يقبل سعد أي إهانة بحقّ عمله، فهو «معلّم» و«مش مين ما قال إنو رتّّا بيكون رتّّا»، هذه المهنة صعبة جداً، كما يؤكّد سعد «وتحتاج إلى نظر قوي، قوي وقوي، وإلى طول بال». هذه المتطلبات لم تغر أولاد «الرتّا» ليتعلموا مهنة أبيهم، فدخلوا الجامعات، وتخرّجوا رغم محاولات الأب إقناعهم بأهمية «الرتق» هذه الأيام. فسعد يدرك جيداً أن المهنة على أبواب الانقراض من لبنان، إذ أصبح عدد الذي يمارسونها يعدّ على أصابع اليد في كل لبنان.
إلا أن الشقيق الأصغر لسعد تعلّم المهنة «غصباً» عن أخيه، «ألحّ عليّ لأعلّمه مهنتي، ولكنني رفضت مراراً، إذ كان لا يزال في المدرسة، وبعد إلحاحه قبلت». وفعلاً تعلّم الأخ المهنة ولا يزال يمارسها حتى اليوم.
يتوقّف سعد دقائق عن الكلام، ليستقبل امرأة، تقصده باستمرار لرتق ثيابها. تشرح له السيّدة ما تريده، «تكرم عينك» يجيبها بابتسامة. بعد ذهاب المرأة بدقائق يجلب الرجل عدّته ليبدأ عمله «بحب أعمل شغلي دغري». يفتح كيس الخيطان، ليختار اللون الأنسب والأقرب إلى القماشة «في بعض الأحيان قد يبدو لون أحد الخيطان أقرب إلى القماش، ولكن عند استخدامه لا يكون مناسباً، لذلك تحتاج هذه المهنة إلى خبرة». وخبرة «الرتّا سعد» تبدو كبيرة، فما هي إلا ثوانٍ يجد بعدها اللون المناسب، يعلّق الإبرة والخيطان في قميصه ويكمل حديثه، لتقاطعه مجدداً امرأة أخرى تسأله إن كان يقوم بخياطة ياقة وأكمام قميص. وبما أن الرتّا سعد لا يغش زبائنه، يجيب ببساطة: «بدي شوف القطعة، أو إذا أردت أدلّك على خيّاط بأول الشارع، وسأقول له أن يتوصّى بك». تشكره المرأة وتغادر.
لعلّ أكثر ما يجذب الزبائن إلى الرجل الستيني أسعاره المعتدلة جداً كما يقول. ورغم هذا الاعتدال، يقوم الكثير من الزبائن بسرقته، فيأخذون ثيابهم «ومنرجع مندفع بكرا، ولو؟ ما نحنا من الحي»، وبطبيعة الحال لا يعود هؤلاء، «وأنا ما بسأل».
أغلب زبائن سعد من النساء، أما المهنة فهي للرجال كما يقول، «النساء يتخيّلن أن أعمال الخياطة التي يقمن فيها في المنزل تخوّلهن للتحوّل إلى مهنة الرتق، وهذا اعتقاد خاطئ». بهذه البساطة ينفي الرجل كل ما يتردّد عن ارتباط عمله بالنساء «أغلب الأشخاص لا يفهمون أن الرتق والخياطة مهنتان مختلفتان». وانطلاقاً من هذا الواقع رفض الرجل تعليم ابنته المهنة، بل دفعها إلى إكمال علمها واختيار مهنة مناسبة للفتيات.
لا يحب سعد السياسة، ولا يتحدّث فيها «كل شيء له أربابه، وأنا لا أحب السياسة». يرفض تمييز الإنسان تبعاً لانتمائه السياسي. فالإنسان إنسان مهما اختلفت الآراء والمعتقدات التي يؤمن بها أو يناصرها. ومع ذلك للرجل ثوابت سياسية واضحة وأكيدة وأبرزها «أن إسرائيل أساس البلاء في هذا البلد».
وقد تكون لولادة سعد في منطقة صور الأثر الأكبر على هذا الرأي «الجنوب بجنّن بس خلي الأوضاع تروق»، وعندما تهدأ الأوضاع «لبنان سيعيش بألف خير، تماماً كما كان قبل الحرب». يتذكّر الرجل أيام كان «الأجنبي» يأتي إلى هذا البلد بحثاً عن عمل «كان لبنان سايع الكلّ».
يعطي الرجل أمثلة من سبعينيات القرن الماضي حين كان الأجانب، أي الأوروبيون والأميركيون بمفهومه، يعيشون برخاء وبسعادة في بيروت وفي ضواحيها، «رزق الله على هيديك الإيام».


كل الملل حبوني

لا تفارق البهجة حديث الرتّا سعد، حتى عند استعادته لبعض الذكريات الأليمة في حياته. ويعترف بأنه يحبّ أن يظل محاطاً بالناس وبالأصدقاء «الجنة بلا ناس ما بتنداس» يقول. لا يعرف كل جيرانه أو كل المارين من أمام محله، إلا أنه يبتسم للجميع انطلاقاً من إيمانه بأن البسمة هي أساس العلاقات الإنسانية. «لما سافرت كل المِلل حبوني، أنا طبعي هيك بحب الناس»