منعت السلطات الإماراتيّة أخيراً كتاب كريستوفر ديفدسون «دبي: هشاشة النجاح». جاء قرارُ المنع في فترة حرجة من تاريخ الإمارة الأخّاذة، عند البعض على أقلّ تقدير. فمحاكمات بتهم العشق على الشاطئ في دبي جذبت اهتماماً بالجانب الآخر من الإمارة المذهّبة
أسعد أبو خليل*
لا يردُ ذكرُ الجانب الآخر من إمارة دبي في الصحافة العربية. إعلام العصر الفضائي ينطلق في أكثره من دبي، و«المدينة الإعلامية» هناك لا تخدم الكلمة هكذا «لوجه الله» على ما يقولون. وعندما تضايق الطاغية الباكستاني برويز مشرّف من فضائيّتَيْن باكستانيّتيْن، نفّذت إمارة دبي مشيئة قيل إنها أميركيّة بتوقيف المحطّتيْن عن البث. كانت فترة حرجة في حكم مشرّف، وخاف الراعي الأميركي سقوطاً غير مُتوقّع لحليف. ولا ننسى أن جهاز الدعاية الأميركيّة يتمتّع بمكتب دائم في دبي: يرقب ويلاحظ ويرصد ويعلّق ويضيف. لا تخلدُ عينا الراعي الأميركي إلى النوم. عليه أن يُوجِّه وأن يحرصَ وأن يهدي. يمشي في الأرض العربيّة ويعطي الأوامر. تسرّبت مذكرة أميركيّة أخيراً تضمّنت خطة من وزارة الدفاع الأميركية للتأثير على الرأي العام العراقي. اقترحت وزارة الدفاع الأميركيّة برنامج «سوبر ستار» عراقياً لتعزيز النزعة القطْريّة هناك فضلاً عن أنه لا يزال ثمة من يستهزئ بنظرية المؤامرة.
قرار منع كتاب كريستوفر ديفدسون «دبي: هشاشة النجاح» جاء ليزيد من التغطية الصحافية غير المؤاتية لسلالة آل مكتوم. وهناك أمور رقابيّة فضّلت الإمارة أن تبقى غير مُعلنة. حتى مواقع «مايسبيس» و«فليكر» ومدوّنات ممنوعة هناك على ما جاء في مقالة في جريدة «الأوبزرفر» قبل أسابيع. وعاد الرقيب في دبي ليبطل قرار منع كتاب ديفدسون، لكنه زاد أن الكتاب يتضمن الكثير من الأخطاء. الرقيب في بلادنا تطوّر: أصبح ناقداً أدبياً ومحرّراً لغويّاً ومدقّقاً أكاديمياً. يستحق علاوة! والكتاب المذكور صدر حديثاً هنا عن دار نشر جامعة كولومبيا وجاء ليسدَّ نقصاً في المكتبة (بالعربية أو باللغات الأجنبيّة). صحيح أنّ هناك كتاباً بالألمانية ينتقدُ حكم آل مكتوم، لكن حاكم دبي يحظى بتغطية وإعجاب يحسده عليها حكام العرب المتسلّطون. وكتابُه «رؤيتي» يتضمن وصفة معجميّة للرأسمالية المتوحّشة على نسق تلك التي حاولت مجموعة جامعة شيكاغو فرضها في تشيلي بعد انقلاب بنوشيه. الكاتب الصهيوني دانيل بيبس أشاد بكتاب محمد بن راشد. دعا جمهور أهل إسرائيل لقراءته. لاحظ أن فلسطين لا ترد على شفاههم أو أذهانهم. الجيل الجديد من حكّام العرب أسوأ من آبائهم: فقد كان بعض الآباء يعانون خوفاً شديداً من الشعوب، كما أن نزعةً من القومية العربية العاطفيّة اعترت بعضهم مما حدّ من قدرتهم على المجاهرة بتأييدهم لراعيهم البريطاني (أو الفرنسي عندنا في لبنان وسوريا) ثم الأميركي.
الصحافة العربية تتحدّث عن دبي كمن يتحدث عن جنّة عدن. أنهارٌ تجري ومآدب عامرة وطيّباتٌ وغلمان وجوار. دبي أصبحت المُبتغى والمنى. هي المحجّة والقبلة لجيل من العرب اليوم. لا تورد الصحافة العربية عن دبي إلا السطحي: أخبار عن فنّانة مرّت وعن مهرجان ومسابقة وجوائز أميريّة، فضلاً عن سباقات الخيل والهجن. والجوائز الأميريّة والملكيّة في بلادنا تُغري وتجفّف أقلام الحبر وتُجمّدُ شاشات الكومبيوتر. تتذكر من كان يعظك بضرورة مقارعة الأنظمة دون هوادة، وقد أصبح رئيس لجنة من لجان آل مكتوم أو آل سعود أو آل نهيان أو آل الصباح. تتذكرهم واحداً واحداً، وتكاد أن تُصابَ بالاكتئاب. الصحافة العربية مهتمّة بأليسا أو بعمرو دياب لا بمعاناة شعب فلسطين في عكا أو في غزة أو في رام الله. يقال إن دبي خالية من الثقافة. ينسون أن ثقافة الإباحية السوقية (لا الإباحية الفنيّة والأدبيّة) وتسليع المرأة هما ثقافة. ينسون ما قاله «برنغتون مور» في كتابه القيّم عن «الجذور الاجتماعيّة للدكتاتورية والديموقراطية» الصادر عام 1966. لقد ذكر أن ما من نظام متسلّط (متسلط ديموقراطياً أو تسلطياً) يستطيع أن ينشر نفوذه وأن يستمرَّ ما لم يستعن بجهاز ونظام متطوّر من التلقين ومن التطعيم ومن الإرشاد ومن التعليم. الناس تقرأ الجرائد وتحضر الصفوف وتشاهد التلفزيون وتصفق وتستمع إلى الأغاني وفق نظام من تطويع المواطن (والمواطنة) وكسب الطاعة. وليست ثقافة العالم العربي التي ترصد زيجات أهل الفن، شرقاً وغرباً، أكثر من رصدها لمعاناة شعب فلسطين وأهل العراق، إلا ثقافة فرض الخنوع والطاعة وقبول الاحتلال. إنها عولمة الطغيان.
ويأخذك كتاب ديفدسون إلى مرحلة مبكرة، إلى الخمسينيات والستينيات. ينسى البعض بعضاً من تاريخنا. لماذا نعود القهقرى في بعض شؤوننا؟ الوثائق البريطانية تتحدّث عن قلق استعماري جدّي منذ الخمسينيات من تنامي الحركات الوطنيّة والقوميّة داخل دبي. المهنيّون والحرفيّون من المشرق ومن مصر ملأوا إدارات الدولة والمدارس يومها. والشعب في دبي كان متقبلاً للأفكار الثوريّة والتحرّرية والتحريضّية حسب ما نقرأ في وثائق الخارجية البريطانية. أصيب المُستعمِر وحليفه راشد بن سعيد آل مكتوم بالذعر. كانت شعارات معادية للاستعمار البريطاني تملأ الجدران. تدارس المُستعمر الأمر وقرّر ترحيلاً بالجملة لـ«المشاغبين». الوثائق البريطانيّة تحدّثت عن تهريب لمنشورات شيوعية قام به لبنانيون في الإمارة. (ص. 46 من كتاب ديفدسون). كم تغيّرَ العالم العربي، وكم تغيّرَ هؤلاء اللبنانيّون! كانوا يهرّبون المنشورات الشيوعيّة وباتوا اليوم منصرفين إلى تهريب المومسات والجواري والعبيد. أمرَ المُتسعمِر بإبدال المُشاغبين بمعلمين من دول أخرى.

ما وراء بريق «النجاح»



وبعد اكتشاف النفط، زاد اهتمام المستعمر، وزادت محبته لنا. راشد بن سعيد كان يرغب في استضافة دائمة للمُستعمِر. لعله رغب في عقد اتفاق على غرار اتفاق الاستعمار الدائم في العراق الذي يعمل بوش على تخريجه قبل رحيله. لكن تنامي الشعور القومي والسخرية الناصرية من سلالات شخبوط مثّلت إحراجاً وضغطاً لا سابق لهما. ما عاد الاستعمار سمة من سمات العصر. لكن البريطاني ــــ والحق يُقال ــــ لم يرد أن يغادر قبل أن يرتب البيت الشخبوطي. كان هذا وراء إقامة دولة الإمارات. (مثلما قرّر المُستعمِر البريطاني إنشاء جامعة الدول العربية من أجل ضرب نموذج شعبي للوحدة العربية ومن أجل جمع وكلاء الاستعمار في بلادنا، كما تجمع كوندليزا رايس اليوم في تجوالها في العالم العربي من تريد من الدول المحظية ويتسابقون لإسعادِها). إنشاء الدولة كان بسبب حدة التناحر والصراعات بين سلالات المشيخات النفطيّة. ينسى البعض تاريخاً من الانقلابات والانقلابات المضادة (المُدبَّرة على يد السلالات، بعضها ضد بعض) الاغتيالات. والصراعات تدور ليس فقط بين السلالات بل بين أبناء (البنات مستثنيات من الحكم) السلالة الواحدة.
ومع أن الاتحاد عن طريق الانضواء في المعسكر الرجعي قلّصَ التناقضات بين السلالات، فإنه لم يزلْها تماماً. وتتطلّع إلى كل نظام من تلك الأنظمة لتجد ملامح وعلامات لصراعات غير مُعلنة داخل العائلة (إن في رأس الخيمة أو في أبو ظبي حيث يتكتّل أبناء الشيخة فاطمة في حلقة متراصّة كما تكتل سديريّو آل سعود). وليست الولايات المتحدة بعيدة عن الصراعات داخل العائلة الحاكمة أو عن حسمِها. ويظهر هذا الدعم خلال صفقات بيع الأسلحة والبيانات التي «يتلقاها المرضي» عنهم. وفي المقابل، فإن السلالات الحاكمة تردّ الجميل للراعي الأميركي عبر تنفيذ الأوامر من دون سؤال. وقد قدمت دولة الإمارات دعماً عسكرياً كبيراً لجيش الاحتلال في العراق، بما فيها طائرات عمودية من طراز «بيل». يشترون من أميركا، ثم يهبون ما يشترون لأدوات أميركا طمعاً بمزيد من دعم أميركا، فتستفيد أميركا مرتين. وقد قامت الإمارات ببرنامج من التدريب لقوات دولة الاحتلال في العراق تنفيذاً للأوامر. والشيخ عبد الله بن زايد يطمع بأن يصبح نجم أدوات أميركا بين الحكام، وقد سجّل نجاحات. ويُقال إن رايس راضية عنه كثير الرضى.
لم نكنْ نعلم الكثير عن بواطن حلف دبي مع أميركا إلى أن عطّل الكونغرس اتفاقاً لإدارة الموانئ الأميركية من جانب شركة موانئ دبي العالمية. فقد انبرى أقطاب الإدارة الأميركية لطمأنة الشعب الأميركي والكونغرس إلى نوايا حكومة دبي. يومها قال بوش إن دولة الإمارات «هي شريك أساسي لبحريِّتنا في منطقة حرجة... ودبي تخدم سفن البحرية أكثر من أية دولة أخرى في العالم خارج أميركا». يا للحنان. كما أن ميناء جبل علي هو أكثر ميناء تزوره البحريّة الأميركية. والميناء الثاني من مطار دبي قد يكون مُكرّساً ــــ دون إعلان رسمي ــــ لحرب بوش على ما يسميّه هو «الإرهاب». وليس صدفة أن مطار دبي وحده يسيّر رحلات منتظمة لبغداد وكابول (من جانب شركات طيران وبأسماء تُذكِّر بتلك الشركات الوهميّة التي أنشأتها أميركا في جنوب آسيا أثناء الحرب في فيتنام)، إلا إذا كانت دبي تزمع تنشيط السياحة البريئة في الرمادي وفي قندهار. وقاعدة «الظفرة» الإماراتيّة مُكرّسة لغايات أميركية (عسكريّة واستخبارتية على ما يقول ديفدسون). ولم نعلمْ أن القاعدة المذكورة تخدم غاياتٍ تجسّسية إلا عندما تحطمت طائرة تجسس أميركية من طراز «يو تو» عام 2005 دون أن تعلن الحكومة الأميركية أو الإماراتية ملابسات الحادث. لكن توفير القواعد الجوية المتطورّة بات سمة من سمات خدمات حكومات المحميّات النفطيّة للإدارة الأميركية. مالُ العرب ودمهم مُسخران لك يا بوش. لكن هناك الكثير من المعلومات غير المنشورة عن طبيعة الخدمات العسكريّة الإماراتيّة للإدارة الأميركية، بما فيها تلك القاعدة العسكرية التي توفّرها الحكومة للاستخبارات الأميركية، مع أن عدد القوات الأميركية الخاصّة الموجودة في دولة الإمارات سرٌّ من الأسرار.
هناك أيضاً الجانب الإنساني الأخلاقي لدبي. فالمدينة شهيرة ليس فقط بأخبار البذخ المبتذل والفاقع والمُنفّر وفي أخبار اليخت الذي يملكه الشيخ «مو» على ما يسمّيه أصدقاؤه من الغربيّين، بل وفي تجارة البشر والرقيق الأبيض. تملك دبي شبكات واسعة من شبكات الدعارة، التي يبرع في إدارتها لبنانيّون (لماذا يتخصّصُ بعض اللبنانيّين في شؤون الملذّات الخليجيّة؟). وتقتصّ حكومة دبي، على عادة حكومات العرب، من شبكات الفقراء لأن الشبكات الثريّة الفاحشة تلبّي طلبات أمراء ونافذين. وتذكر الباحثة عالية شعبيب في دراستها المنشورة عن «السحاق والبغاء» ـــ لا ندري لماذا جمعت الاثنين معاً مثلما يجمع بعض عنصريّي الذكورة النساء والأطفال ـــ لعل ذلك من مخلفات نظريّة أرسطو في دونيّة النساء وتشبيههم بالأطفال. تذكر أن أسعار المومسات تخضع في دول الخليج، مثلما تخضع في وطن الترمس، إلى ميزان عنصري لأثمان النساء، تحتلُّ فيه الأوروبيّات المرتبة الأرفع (وهي غير «المحلّ الأرفع» الذي هبطت منه نفس ابن سينا).
ودبي تمثل نموذجاً للإعمار الهائل والباهر، لكنه يخفي جانب ظلم العمال الأجانب واستعبادهم (كما أخفى إعمار بيروت البشع جانب ظلم العمال السوريّين في لبنان، وهم الذين عمّروا بيروت بسواعدهم وبأسعار بخسة). وقد أفردت منظمات حقوق الإنسان تقارير طويلة عن وضع العمال والعاملات الذين واللواتي يتعرضون ويتعرضن لأبشع معاملة، وهذا النظام لم يحظَ بتغطية إعلامية عالميّة إلا في هذا العام، لأن العامل الآسيوي ضاق ذرعاً بعقود من هضم الحقوق. وظلم العمال يحصل على ثلاثة مستويات: 1) الإخلال بالعقود. فهناك شركات وأمراء يستوردون عمالاً تحت شروط مختلفة عن بنود العقود المُوقَّعة. وهناك من النساء من يأتين إلى دبي للعمل في وظائف إدارية ليكتشفن أنهنّ مستوردات لمصلحة شبكات دعارة. وتستولي تلك الشركات على جوازات سفرهنّ للتحكم في مقدّراتهن ولإجبارهن على الخضوع. 2) يتعرّضُ العمال لشروط عمل قاسية لا تحترم الحقوق المتعارف عليها في اتفاقات منظمة العمل الدولي، كما أن الإمارات تحارب التعاضد والتكافل والاتحاد بين العمال وتسارع إلى تسفيرهم (لا يظهر ديفدسون في كتابه أي تعاطف مع العمال، لا بل إنه يسوّغُ قمع الحكومة لهم). 3) وهناك ظلم المجتمع من حيث العنصريّة السارية والنظرة الفوقية الاحتقارية للعمال. أذكر أني سألتُ قبل أربعة أعوام أو أكثر عاملاً باكستانياً في الدوحة عن وضع الباكستانيّين في دول الخليج: هل هي العبوديّة بعينِها، سألتُه؟ «لا. قل إنها شبه عبوديّة»، أجابني.
يعتمد بريق دبي الزائف على الترويج الدعائي وعلى توفير جنة لرأس المال أنى كان مصدره وأنى كانت طبيعته، وهذا يفسّر ازدهار ثروات المافيا والتهريب وتبييض المال هناك، لكن الولايات المتحدة وحدها تتمتّع بسلطة الرقابة عبر وزارة الخزانة الأميركية التي تقرّر اليوم كيفية صرف أموال زكاة المسلمين، بدعم من هيئة كبار العلماء. والترويج لدبي يتماشى مع الترويج لشخص الشيخ محمد بن راشد، الذي يعرف كيف يغازل الصحافة العربيّة والغربيّة على حدّ سواء. أصبح حضرتُه مثلاً أعلى في عالم اليوم. كان الشباب والشابات في جيلي يتطلعون نحو ليلى خالد وغسان كنفاني وأبو علي أياد. أما اليوم، فالكثير منهم يصبو لأن يكونَ نديم ساعة لشيخ دبي. سمير عطا الله لم يعد فرداً. إنه مدرسة بحد ذاتها. وحملة الترويج للشيخ محمد بن راشد لا تنتهي: حتى تعدّد زوجاته يُعدّ نصراً أكيداً لحريّة المرأة العربية.
هناك الكثير لا يعلمه العرب عن الشيخ محمد. فهو لم يأتِ من خلفيّة علميّة أو فكريّة أو حتى «فنيّة». الشيخ محمد ذو خلفية بوليسيّة عسكريّة. تدرّج في المراكز الاستخباراتيّة والعسكريّة مثله مثل الكثيرين من حكام اليوم في العالم العربي. والكتب الترويجيّة ومواقع الإنترنت والمنتديات «الفكرية ــــ النفطيّة» تحاول فبركة صورة لطيفة وملطّفة عن الشيخ محمد. وهناك شذرات من أقواله تحاول أن تجعل منه «نيتشه» زمانه. ومن أقواله المأثورة: «على الإنسان أن يكون دائما متفائلاً». وما إن يفتح الشيخ محمد فمه حتى يبادر بعض مثقفي العرب إلى إسباغ المديح عليه والإشارة إلى عمق تفكيره. وحضرة حاكم دبي شاعر: كان يكتب الشعر من دون توقيع، خفراً واستحياءً. وله قصائد عصماء في مديح الشيخ زايد ومديح والده هو، الذي ما كان يريد للمُستعمِر أن يرحل عن أرضه. لكن لا غضاضة. فالمُستعمِر عاد ويفعل ابن الشيخ راشد المستحيل للترفيه عنه، ويمرّ في إمارته الآلاف من رجال البحريّة الأميركيّة للترفيه.
العالم المُتغيّر يضغط على دبي. والمنافسة بين الإمارات والمشايخ والممالك النفطية ومنافض سجائر الاستعمار، تزداد. وتتفق تلك الإمارات على الجمع بين إسعاد رأس المال الغربي وتنفيذ الرغبات الأميركية. وتقوم حكومة الإمارات بتلبية المطالب الأميركية إلى درجة لم تعهدها أميركا في عهد الشيخ زايد. كان الحذر وعدم المجاهرة بالولاء لأميركا سمة من سمات الجيل السابق من حكام الخليج (والعالم العربي). الجيل الجديد يتنافس في المجاهرة. كان الشيخ زايد مثلاً يغدق الأموال على منظمات فلسطينيّة (بعضها رافض للحلول الاستسلاميّة) رغم ولائه للمُستعمِر. كان موقفُه العاطفي من القضيّة الفلسطينية يُعدّ موقفاً فروسياً أو من الرجولة البدوية العريقة. كل ذلك تغيّر بعد 1991. لم يعد الخفر مقبولاً، ولم يعد دعم الشعب الفلسطيني مسموحاً. وحدها الإدارة الأميركية تعطي أذوناتٍ بالمنح والعطايا الخليجيّة ووحدها تقرّر من يستحق ومن لا يستحق. ودولة الإمارات كانت سبّاقة في دعم السنيورة والمالكي والدحلان وأبو ريشة وفق المشيئة الأميركية.
لكن ما هي قاعدة استمرار دبي؟ على أي أساس؟ وكيف يُبنى وطن يمثّّل بنوه فيه أقليةً تزداد أقليّةً؟ وهل تستمرّ كيانات تقوم على الاعتماد العسكري (أميركياً وفرنسياً وربما إسرائيلياً عما قريب) على المُستعمِر لحماية العروش؟ فلسفة أنظمة المحميات الخليجية تعتمد أكثر ما تعتمد على ازدهار اقتصاد الغرب، لا على اقتصادها هي. وترهن السلالات الحاكمة ثرواتِها لخدمة اقتصاد الغرب ومصالحه العسكرية على حساب مصالحها هي. كيف يمكن هذا الكيان أن يستمرّ فيما يتناقصُ عدد سكانه (نسباً) باستمرار؟ وهل لاقتصاد دبي أن ينمو وأن يستمرّ بناءً على دعائم خدماتيّة وترفيهيّة، لا أكثر؟ نذكر أن اقتصاد لبنان تهاوى بسرعة تحت ضربات التصارع الأهلي. وتجارة السلاح والبشر، بالإضافة إلى سياحة دعارة واستخبارات وخدمات موانئ للبحريّة الأميركية، لا تصنع اقتصاداً متيناً أو مستقبلاً آمناً، وخصوصاً أن البنية الديموغرافية اضطرّت العائلة المالكة للاستعانة باليد العاملة الأجنبيّة حتى في القوات المسلحة، وإن بقي الأمرُ دون إعلان رسمي. واليابان كانت الحدث الاقتصادي الأبرز في الستينيات والسبعينيات، لكن ذلك البريقَ زال، مع أن اقتصاد اليابان كان مبنياً على صناعات ثقيلة وحديثة. ثم لا يمكن هذا النمو الهائل أن يتماشى مع الطلب، وخاصة أن مدناً خليجيّة أخرى، مثل الدوحة وأبو ظبي، تتنافس مع دبي الآن، بالإضافة إلى مدن ينوي آل سعود أن يبنوها. ومن يضمن أن الصراعات المختلفة والمُضمرة بين أفراد العائلة الحاكمة الواحدة وبين السلالات المختلفة لن تستعر ولن تشتعل كما كانت مستعرة عبر التاريخ؟
لاحظت مجلة «الإيكونوميست» الرصينة أن الأزمة المالية العالمية قد وصلت إلى دبي، وأن حجم السوق أخذ يتقلّص باستمرار، وإن كانت العائلة قادرة على ضخ المال متى أرادت. وشركة «مورغن ستلانلي» توقعت أن تنخفض أسعار الأراضي في دبي بنسبة 10% في عام 2010. صحافة الغرب بدأت تلاحظ تفشّي الفساد، وفضيحة بنك دبي الإسلامي تتفاعل، مع أن الحكومة تتستّر كعادتها رغم تصريحات عامة وضبابيّة للشيخ «مو». وتوقّعت المجلة أن تسوء العلاقة بين الشيخ خليفة بن زايد وحاكم دي. (والشيخ خليفة يسيطر على مال أبو ظبي فيما يسيطر أولاد الشيخة فاطمة من إخوانه على السياسة الخارجية). ثم كيف توفِّق حكومات الخليج بين إعلاناتها الحداثيّة وتعاونها مع جامعات خاصّة غربيّة ــــ تشترط دوماً تطبيعاً مع دولة العدو الإسرائيلي ــــ وبين توقّعات وطموحات أجيال جديدة من المواطنين والمواطنات من أجل توسيع نطاق المشاركة السياسيّة، بعيداً عن مهازل «الانتخابات» البلديّة في السعوديّة؟ ومن ينقذُ سلالاتِ النفط من حاميها إذا هو أشعل المنطقة، قصداً أو تهوّراً؟
* أستاذ العلوم السياسيّة
في جامعة كاليفورنيا
(موقعه على الإنترنت:
angryarab.blogspot.com)