عصام حداد *أستاذ الاقتصاد الأميركي في جامعة برنستون Princeton والحائز جائزة نوبل للاقتصاد هذا العام 2008، بول كروغمان، كتب عام 2005 محذراً: «الأميركيون يبيع بعضهم بعضاً بيوتاً، تموّلها قروض صينية». وأتت الأزمة العاتية التي تمسك بخناق القطاع المالي العالمي لتكشف عن أهمية الدور الذي تلعبه التوظيفات المالية الصينية في أسواق المال الأميركية خاصةً، والعالمية عامة. فحتى أشهر قليلة، كان الصينيون منغمسين بتوظيفات بلغت 376 مليار دولار في أكبر شركتين للرهن العقاري في الولايات المتحدة الأميركية: فاني ماي Fanny Mae، وفريدي ماك Freddi Mac. وهذا المبلغ يعادل خمس احتياطات الصين من الدولار والبالغة 1.800 مليار دولار.
وعندما بدأت مظاهر التغير في حركة هذين العملاقين في سوق المال من جهة، وتقاعست حكومة بوش عن تقديم العون لها من جهة ثانية، لجأت الحكومة الصينية في أواخر شهر آب / أغسطس إلى خفض حجم توظيفاتها بنسبة الربع خلال أيام قليلة، الأمر الذي لم يكن ممكناً لحكومة جورج بوش تجاهل عواقبه الوخيمة، وخاصة أن البنك المركزي الياباني قد أخذ بنهج الحكومة الصينية، واضعاً حكومة بوش أمام منافسين قويين لا يمكن تحديهما بسهولة. وألحق بأسهم شركتي الرهن العقاري Fanny & Freddi خسارة بلغت 14% من قيمتها خلال أيام.
عندها رضخت حكومة بوش واشترت كلتا الشركتين لمنعهما من إعلان إفلاسهما. ويعتبر المراقبون خطوة حكومة بوش هذه بداية التدخل السريع في أزمة أسواق المال التي بدأت تأخذ أبعاداً خطيرة على المستوى العالمي، ويرون التصرف «المنسق» الصيني ـــ الياباني القبضة التي رفعت في وجه «الأميركي الجشع» والتي لم يعد ممكناً تجاهلها مطلقاً.
لم تسلم البنوك وشركات التأمين وصناديق الدولة الصينية من الأضرار المترتبة على أزمة أسواق المال العالمية: فقد خسر صندوق الدولة (CIC) مليارات عديدة من توظيفاته في بنوك مثل بلاك ستون Blackstone ومورغان ستانلي Morgan Stanley. ولم تفصح الدولة الصينية عن حجم هذه الخسارة، لأن القانون يلزم فقط البنوك الصينية دون سواها بالإعلان عن خسائرها، ولذلك لا يعلم أحد سوى الدولة الصينية حجم الخسائر الفعلية التي لحقت بتوظيفات صناديق الدولة في أسواق المال الأميركية.
ومن جهة أخرى، اضطرّ بنك الصين للصناعة والتجارة (ICBC) منذ مطلع عام 2008 إلى شطب 360 مليون دولار من قروض خارجية هالكة، كما ترجح خسارته معظم توظيفاته الخارجية في قطاع الرهن العقاري البالغة 1,2 مليار دولار. والأمر ذاته تكرر مع توظيفات بنك التنمية الصيني في بنك باركليس Barclays Bank البريطاني. كما لم ينجُ بنك الصين Bank of China أي البنك المركزي للدولة، ولا شركة التأمين He Ping من موجة الخسائر التي لحقت بالتوظيفات المالية الصينية في الأسواق المالية الأميركية والأوروبية.
واليوم، في خضمّ عمليات الإنقاذ التي يجري تنظيمها عالمياً لمعالجة تبعات انهيار الأسواق المالية، تحتل الصين دوراً مركزياً في تغطية احتياجات الاقتصاد الأميركي العاجز من القروض: فالولايات المتحدة تحتاج شهرياً إلى 20 مليار دولار قروضاً من الخارج، تستورد معظمها من آسيا، وبشكل رئيسي من بنوك الصين، الأمر الذي حدا بالمراقبين إلى القول إن «الخطر الأصفر» يتمثل اليوم بتحكم الصين بصنبور القروض الذي يحول دون احتضار الاقتصاد الأميركي عطشاً.
وهكذا تبرز بالملموس حقيقة الدور الهام الذي تضطلع به هذه الاحتياطات النقدية الضخمة لدى البنك المركزي الصيني وسواه من البنوك في آسيا في أيام الأزمة المالية العالمية: إنها سلاح سياسي فعال بامتياز.
وعلى الرغم من انغماسها في أوحال الأسواق المالية الأميركية والأوروبية، إلا أن خسائر الصين بقيت أقل بكثير من خسائر سواها. ويعود ذلك إلى قدرتها على تحريك رساميلها الخاصة بها من جهة، وعلى إعادة إنتاجها من ناحية ثانية. وهذه الحقيقة تعزز اليوم دور الصين كقوة صاعدة في عالم المال، بعدما أثبتت وجودها كقوة جبارة في ميادين الصناعة والتجارة العالمية.
إن ثلاثة من أكبر خمسة بنوك في العالم، هي بنوك صينية. ولا يمكن بحال تجاهل الدور والمكانة المتنامية لكل من هونغ كونغ وشانغهاي في عالم المال، في الوقت الذي يتراجع فيه دور وول ستريت العالمي. وإذا ما خطت الصين فعلاًً نحو تحجيم احتياطها وتوظيفاتها بالدولار، فسيكون هذا بالتأكيد لمصلحة اليورو الأوروبي من جهة، ولمركز لندن المالي العالمي من جهة ثانية. ومن هنا يصح الاستنتاج أن القرن الواحد والعشرين سوف يشهد تحركاً هاماً في مواقع القوى الفاعلة والمؤثرة في عالم المال لمصلحة المنافس الآسيوي، وذلك على حساب تراجع دور وول ستريت، مما يعزز دور المستثمرين الصينيين في أوروبا، على غرار ما شاهدناه ونشاهده في أفريقيا وغيرها.
* كاتب لبناني مقيم في برلين