ريمون هنّودكان الياس فرحات في الرابعة عشرة عندما قال لمعلمه مازحاً:
«شو هالصباح الملعون مصيبة بتلات مصيبات خوري وماروني ومارون يا تعتيرك يا فرحات». وكان في التاسعة عشرة من عمره عندما قال مستخدماً التورية: كفرشيما فيها كفّار جزاهم غير النار تركوا عبادة الله وعبدوا شقفة جحش حمار ـــ هذه الأبيات ردّدها منذ خمسة وثلاثين عاماً في سهرة في كفرشيما، أي عام 1973 أصدقاء أوفياء للياس فرحات الذي ولد في تلك البلدة الرائعة عام 1893 وتوفي في البرازيل عام 1977.
أول بيتين نظمهما في معلمه الخوري مارون، الذي عاقبه رغم أن الأبونا كان يعرف أنهما مزحة من الياس فرحات. أما البيتان الآخران، فقد قالهما منتقماً من عبدو صديقه الذي رفض أن يقلّه في عربته ما لم يقل فيه شعراً يمدحه!
كان الياس فرحات من الشعراء الذين عشقوا الأدب والشعر، وقد ألّف دواوين عدة اختار عناوينها من أسماء الفصول الأربعة، وقد أرادها نقداً اجتماعياً يمزّق به أقنعة الذين يشتغلون في السياسة عن طريق تجّار سوق الطويلة وسوق النورية. وانطلاقاً من مبدأ الوفاء للقيم الإنسانية، يخاطب الواقفين على الضفة الأخرى: ما دُمْتَ محترماً حقّي فأنت أخي/ آمنتَ بالله أم آمنتَ بالحجرِ دع آل عيسى يسجدون لربّهم / عيسى وآل محمدٍ لمحمّدِ.
لكنه ارتأى القفز بهذا الموقف قفزة لا بد منها فيقول: أنا لأ أصدّقُ أنّ لصّاً مؤمناً أوفى لربّكَ من شريفٍ ملحِدِ. ثم يلتقي فرحات جبران الذي خاطب ذات يوم بني أمّه كنبي من أنبياء التوراة: أرواحكم تنتفض في مقابض الكهّان والمشعوذين وأجسادكم ترتجف بين أنياب الطغاة والسفّاحين، وبلادكم ترتعش تحت أقدام الأعداء والفاتحين. فماذا ترجون من وقوفكم أمام وجه الشمس؟ لقد ثبت أن خطاب جبران يحتاج في أيامنا هذه إلى بعض التعديل، أما خطاب فرحات، فهو حفر وتنزيل لا يحتاج إلى تعديل، إذ إنّه ملائم تماماً لأيامنا هذه، يقول فرحات:
إذا استحالَ الأنين زمجرةً/ تساقط في سمائها الشُهُبُ ثورة الجائعينَ إنْ نشبتْ/ فكلُّ قصرٍ لنارها حَطَبُ.
لقد وصف جورج صيدح (وهو من الذين كتبوا في أدب الرباعيات عند فرحات) فرحات بأنه شاعر القومية العربية، وشاعر الثورة وشاعر يكره التعصّب، فيقول في المتعصبين: كلُّ امرئٍ متمذهبٍ متعصّبِ/ هو للغريبِ على القريبِ مساعدُ
إنَّ التعصّبَ للمذاهبِ شرّ ما/ أبقى لأمتنا الزمان الفاسدُ منه لأبناء البلاد مصائبُ/ شتّى وللمستعمرينَ فوائدُ.
وقد وصف فرحات الأفعى تتكلم وتخاطب الولايات المتحدة قائلة: أنا لا أنكر أنّي حيّة رضيَ العالم عنّي أم سَخَطْ أنا لا يهتف بالسلم فمي ويدي ترسم للحرب خططْ أنا لا أنصر لصّاً، إنْ مَن ينصر لصّاً من اللصّ أحطّ.
ما من أحدٍ يحتاج إلى أي تفسير للكشف عن مقصد الشاعر ومراميه، ولا سيما في عصر النظام العالمي الجديد!
ويكفي فرحات فخراً أنه كان من الرواد الذين أدركوا باكراً بأن ما يعوز هذه الأمة المصابة بوباء القادة، هو إشاعة الديموقراطية في الدين والمعتقدات في السياسة وكل المجالات، وأن تكفّ عن التصفيق والصفير والهتافات، وأن تعي أن دورها هو صنع التاريخ لا الرضى بأن تكون نفاية فوق مزبلته!