فادية حطيطفي كل شهر، أجد في علبة بريدي في الكلية هدية. هدية كلما فتحتها فاجأتني، مع أنّني أعرف مسبّقاً ما هي. إنها مجلة «توتة» للصغار، وهي تصدر منذ ثمانية أعوام، ورقم عددها الأخير 94. ما يفاجئني فيها أنها لم تفتر همتها ولم تعتق. ما زالت مجلة تشبه جمهورها، أي أولئك الذين يسمي الأكاديميون مرحلتهم العمرية بالطفولة المبكرة، ويقصدون بها الأطفال من عمر الولادة حتى الثماني سنوات. مجلة لم تتنازل عن معايير الجودة، وخلاصتها مضمون تربوي وشكل أنيق ومتعة للصغار أكيدة.
إنها مجلة تتحدى إمكاناتك النقدية. فإن تبنيت معيار المساواة بين الجنسين أو الجندر، ستجده محترماً، كما لو أن العاملين في المجلة استخدموا ميزاناً خاصاً لقياس وزنه. في أكثر الأحيان يكون غلاف المجلة بنتاً صغيرة تقوم بعمل ما، يشع ذكاؤها بقدر ما يشع جمالها. وفي الصفحات الداخلية تجد البنات والصبيان معاً، يلعبون ويتحدثون ويضحكون، مثلما هي الحياة العادية. ولو قلت إنك تود أن تعطي أبناءك مجلة تدعم انتماءهم إلى وطنهم دون شوفينية، فستجد لبنان معشّشاً في أعداد كثيرة من المجلة ومكتوباً بأقلام مُحبّة. في العدد الأخير مثلاً ستجد نصاً بعنوان «رسم غال على قلبي» لصاحبته مريم رعد، من رسم لينا مرهج، وهو عبارة عن ألوان العلم وطريقة رسمه، تنهيه المؤلفه بأن هذا العلم غال على قلبها، وتطلب من الأطفال أن يرسموا العلم الذي يحبّونه. ولو كنت تؤمن بأن الأطفال أذكياء، ويستطيعون هضم المعلومات العلمية، وقررت أن تحاسب المجلة على هذا المعيار، فسوف تجد أنها راعت هذا المبدأ من دون أي تعسف، فهي تعطي معلومات عن الحيوانات وعن الأشياء بطريقة مبسّطة مع رسوم زاهية ولغة قريبة من أذهان الأطفال. وإن كان يزعجك كيف أن التربويين يفترضون أن الحياة تُعلَم أكثر مما تعاش، فسترى أن المجلة تفادت هذا المطب، فالصغار هم أبطال تجاربهم، وهم المتكلمون والمكتشفون. ولمن كانت اللغة العربية عزيزة على قلبه، سوف يجد نصوصاً جميلة، ولغة جذلة وأسماء شعراء وكتّاب معروفين، أمثال سليمان العيسى وجودت فخر الدين وحسن عبد الله وزكريا تامر، وغيرهم الكثير. أما الناحية الفنية، فيمكنك بسهولة أن تقلّب صحفات المجلة، وترى تنوّع الأسماء والملامح الفنية الغنية. وثمة معايير أخرى مرعية، كالجمع ما بين العملي والذهني، وما بين الثقافي والعلمي، وما بين الجدي والممتع...
ليس من السهل أن تنشأ مثل هذه التجارب، وأن تستمر، وأن يصبح عمرها ثماني سنوات دون أن تهزل، على الرغم من الشكوى السائدة من عدم القراءة، ومن صعوبة اللغة العربية، ومن عدم توافر الإمكانات، ومن صعوبات التوزيع، إلى ما هنالك من شكاوى نسمعها كلما أتينا على ذكر القراءة. وتزداد صعوبة التحدى عندما نعرف أنها موجّهة إلى الأطفال الصغار جداً، وهؤلاء ما زال كثير من الأهل يرون أن القراءة نشاط باكر بالنسبة إليهم، والأفضل لهم أن يلعبوا.
إنها تجربة لبنانية متميزة. وهي تجربة مهمّة ومفيدة، إنْ بالنسبة إلى التعليم في صفوف الروضة، حيث تجد فيها المعلمات وسيلة ناجحة ومريحة، وخصوصاً أن كل عدد منها يقدم محوراً خاصاً وملائماً للتعليم، أو بالنسبة إلى الأهل، إذا ما أرادوا أن يعوَّدوا الأطفال القراءة بلغتهم الأم، والتشارك مع أطفالهم في مواضيع جذابة.
نالت هذه المجلة جائزة الصحافة العربية، ويبقى أن تنال جائزتها في لبنان، فنراها في صفوف الروضات وفي المنازل، وفي كل مكان فيه أطفال صغار. إنها مجلة توتة توتة.