منار ديب
حين تدخل منزل رفيق سبيعي، تجد خزانة كبيرة مخصّصة للأوسمة التي نالها. وبينما يحتلّ وسام الاستحقاق السوري من الدرجة الممتازة الذي منحه إياه أخيراً الرئيس بشار الأسد موقعاً بارزاً على الجدار، يعرض سبيعي أول وسام ناله في حياته «نوط الفداء» الذي منحته إياه منظمة التحرير الفلسطينية في عام تأسيسها 1964. الفنان الرائد لا يرى أنّ المعاناة كانت مقتصرة على جيله في سوريا والعالم العربي، لاكتساب الفنان المكانة الاجتماعية التي يستحقّها. صحيح أنّ ثمة ثمناً قد دفع، لكنّه يضرب مثلاً بموليير الذي «اتّخذ اسماً مستعاراً، في زمن محاكم التفتيش وسلطة الكنيسة. ولما مات، رفض رجال الدين أن يصلّوا على روحه. ولولا تدخّل الملك لما كانوا قد دفنوه».
حكاية رفيق سبيعي هي حكاية التجربة الفنية السورية في القرن العشرين التي لا يزال شاهدها حياً، بل مستمراً في نشاطه. في مدينة أبي خليل القباني رائد المسرح السوري، ولد رفيق سبيعي عام 1930 في حي البزورية الدمشقي العريق، غير بعيد عن السوق الشهير وعن قصر العظم والجامع الأموي: «تربّيت في عائلة محافظة وكان لدي هوس بالاستماع إلى الموسيقى التي كانت تترك في نفسي أثراً كبيراً. كان في دارنا فونوغراف كهذا (يشير إلى فونوغراف في الصالة)، تذكّرني والدتي أنني لم أكن أؤدي فرضي المدرسي إلا إذا كانت الأسطوانة تدور».
الطفل الذي استهواه الطرب حاولت العائلة رسم قدره. «الوضع الاجتماعي يفرض نشأة دينية. أخي الأكبر كان يحضر الأذكار في المساجد، ويأخذني معه يوم الجمعة فأقف بين المنشدين، وأردّد الأشعار (صولو)، وكان الشيخ يحب أدائي». الولع بالموسيقى سيقود الفتى بعيداً عن المساجد: «صرت حين أعرف أنّ هناك عرساً في مكان ما، أذهب لأستمع إلى الغناء. أصبح الموسيقيون يعرفونني. إلا أنّني كسبت كثيراً من الأذكار والأنغام والإيقاعات».
سيتعرف سبيعي إلى فنّ التمثيل من خلال السينما. «كنت في التاسعة عندما شاهدت أوّل فيلم في حياتي. يومها، اصطحبني خالي لمشاهدة الفيلم المصري «المعلم بحبح». وكانت السينما في بداياتها عندنا». بعد المرحلة الإعدادية، لم يكمل سبيعي دراسته، إذ فرض الوضع الاقتصادي الصعب للأسرة أن يسهم في التخفيف من أعبائها. هكذا، نزل ميدان العمل باكراً وتنقّل في مهن عديدة، حتى استقر في مهنة الخياطة لأكثر من ثلاث سنوات، من دون أن يتوقّف عن ملاحقة شغفه الفني. كان يحضر عروض الفرق المصرية واللبنانية التي تزور دمشق، وتقدّم برامج تجمع بين الغناء والاستعراض والفواصل الكوميدية. «في 1948، كان هناك رجلان يقدّمان فصولاً كوميدية ضاحكة في المقاهي، وخصوصاً في العيد: جميل خربوطلي وأبو رمزي. وفي هذا العام عملت معهما، وحصلت على أول أجر وهو ليرة سورية واحدة».
بعد رحلات عمل في الريف والمحافظات لم تكن مجدية مالياً، انضم إلى فرقة الفنان اللبناني علي العريس، حيث عمل ملقناً. وفي تلك الفترة، ترك بيت العائلة التي لم تتقبل احترافه للفن: «طردوني من المنزل، لكنّ رغبتي كانت فوق كل شيء. كان هناك حافز داخلي يدفعني إلى متابعة هذا الشغف. كنت أنام في الفنادق، بينما كان منزلي في دمشق. كان لدي إيمان بأنّ هذا فن، وبأنّ الفنون هي أحد مظاهر تقدّم البلد وتطوّره». العريس سيغادر دمشق بسبب خسائره، ليحلّ مكانه الدمشقي محمد علي عبدو فيعمل السبيعي معه ممثلاً. هكذا، تعرّف بالفنان الكبير عبد اللطيف فتحي الذي طلبه للعمل ملقّناً، لكنّ سبيعي فضّل الاستمرار في التمثيل: «كانت الفرقة تقوم بجولة في المحافظات وتتعرض لمضايقات من الفئات المحافظة والمتشدّدة، وصلت حد وضع قنبلة في المسرح خلال زيارة الفرقة لمدينة حماة».
في 1953، عاد سبيعي للعمل مع عبد اللطيف فتحي ملقناً. وفي إحدى المرّات، تغيّب الممثل أنور المرابط، فخرج سبيعي من الكمبوشة (ركن الملقن)، ليؤدي دور عتّال في مسرحية «القادم من أميركا». وهكذا، ولدت شخصيّة «أبو صياح» من دون أن يحمل هذا الاسم. «هذه الشخصية عشتُها. كل من كانوا حولي كانوا يشبهونها، في البزورية ومئذنة الشحم والشاغور، كلّهم أبو صياح. أداؤها كان سهلاً، لأنها تعيش في أعماقي منذ الطفولة». ثم حضر العرض الفنان حكمت محسن صاحب الأعمال الإذاعية الشهيرة، فـ«لمس نجاح الشخصية منذ البداية، وربّت كتفي قائلاً: ستصير نجماً، وصار يكتب لشخصية «أبو صياح». وأنا بدأت العمل في الإذاعة». في 1956، أسّس الفنّان عبد اللطيف فتحي فرقة المسرح الحر، وفي 1958، شارك سبيعي في عمل للفرقة هو «حرامي غصب عنه» عن نص للكاتب المصري أبو السعود الإبياري. ذلك العام شهد الوحدة بين سوريا ومصر وإنشاء وزارة للثقافة، ثم تأسيس المسرح القومي (1959) الذي سيقدّم فيه سبيعي مسرحية «أبطال بلدنا» (1960) ليعقوب الشاروني، من إخراج هاني صنوبر. لكنّ سبيعي سرعان ما غادر إلى القاهرة لتلقّي دورة في الإخراج الإذاعي. بقي هناك حتى 1961 وها هو يظهر على التلفزيون السوري في تمثيلية «مطعم السعادة» مع دريد لحام ونهاد قلعي. حينها، لم تكن شخصيّتا غوّار الطوشة وحسني البورظان قد ولدت بعد. في هذه الفترة، قدّم سبيعي عدداً من الأغاني بصوته ومن كلماته في التلفزيون في برنامج «7 في 7» لخلدون المالح كـ «داعيكن أبو صياح» و«يا ولد لفلك شال». هذا إضافةً إلى عدد من الأعمال من المسرح العالمي كـ «الأشباح» لإبسن، و«الاستثناء والقاعدة» لبريخت، من دون أن يحبس نفسه في شخصية «أبو صياح» رغم نجاحها الجماهيري. وقد صار بفضلها «فنان الشعب». «أصرَرْت على ألّا أتأطر. مرة كنتُ أقدم أغنية للرياضيين «غوول غوول» بشخصية أبو صياح، وكان لدي في اليوم نفسه عرض «الإخوة كارامازوف». حاول المخرجون أن يؤطروني، لكنّ إيمان بعض المخرجين بي حال دون ذلك».
بعد المسرح والإذاعة والتلفزيون، دخل رفيق سبيعي مجال السينما، كانت المرة الأولى في «غرام في اسطنبول» (1967) مع دريد لحام ونهاد قلعي، اللذين قدم معهما المسلسلين الشهيرين «حمام الهنا» (1967) ثم «مقالب غوار» (1968)، إضافةً إلى محطات سينمائية كـ«سفاري» (1972) للمخرج الجزائري محمد سليم رياض عن القضية الفلسطينية. وهذا الفيلم لم يعرض عربياً بسبب الصورة التي يقدمها عن الأنظمة العربية، وصولاً إلى الفيلم الكبير «أحلام المدينة» (1984) لمحمد ملص. وبين هذه الأعمال، شارك سبيعي في عدد من الأفلام التجارية التي لا يرى لها فضيلة سوى الانتشار.
اليوم «أمثّل الأدوار التي تلائم سنّي، لم أعد كالسابق أستطيع تأدية الكثير من الأدوار. لكنّني سعيد لأنّ حلمي تحقق مع نهضة الدراما السورية، والمكانة التي بلغها الفنان». يفكّر رفيق سبيعي حالياً في عمل جديد: «في أوائل التسعينات، قدّمت مسرحية «الأب» لحكمت محسن، جُلت فيها على المحافظات، لكنّها لم تعرض في دمشق. المسرحية نوع من تراجيكوميديا عن الأب. أفكّر في هذا العمل، بعدما قال لي وزير الثقافة رياض نعسان آغا إنّ المسرح مفتوح لي. لكننا لم نبدأ بأي إجراءات بعد».


5 تواريخ

1930
الولادة في حي البزورية في دمشق

1953
ولادة «أبو صياح» بعد خمس سنوات على دخوله عالم التمثيل

1961
انضمّ إلى دريد لحّام ونهاد قلعي ممثلاً في التلفزيون السوري

1998
صدور مذكراته «ثمن الحب» عن «مؤسسة الوحدة»، إعداد وفيق يوسف

2008
وسام الاستحقاق السوري من الدرجة الممتازة