الأحداث الأخيرة التي هزّت مصر أكبر بكثير من أن تُختصَر في خانة القدر: سقوط «جبل المقطم» على رؤوس فقراء مصر ومهمّشيها، كما احتراق مجلس الشورى وقبله مسرح القاهرة، وما تخلل ذلك ولا يزال من فضائح وجرائم يرتكبها رموز النظام و«مافيات الأعمال» الملتصقة به، كلها إشارات إلى تداعي نظام حسني مبارك، وخصوصاً مع تحوّل النقمة الشعبية غير المنظّمة إلى حالة أكثر تماسكاً تحاول بلورة مشروع سياسي

أحمد بهاء الدين شعبان *
عمّ البلاء البلاد، قبل دخولها تخوم الدولة الحديثة، (القرن الخامس عشر قبل الميلاد)، فوقف الحكيم «نفر روهو» يرثي حظها:
«أنصت يا قلبي، وانعَ تلك الأرض التي فيها نشأت! لقد أصبحت هذه البلاد خراباً، فلا من يهتم بها، ولا من يتكلم عنها، ولا من يذرف الدمع! فأيّ حال عليها تلك البلاد؟
لقد حجبت الشمس فلا تضيء حتى يبصر الناس، وأصبح نيل مصر جافاً حتى يمكن الإنسان أن يخوضه بالقدم... وكل طيب قد اختفى، وصارت البلاد طريحة الشقاء.
لقد ظهر الأعداء في برّ مصر، والبلاد صارت مغزوّة تتألم، وقد حدث فيها ما لم يحدث من قبل. سأريك الابن صار مثل العدو، والأخ صار خصماً، والرجل يذبح والده! وكل الأشياء الطيبة قد ولّت. والبلاد تُحتضر، وأملاك الرجل تُغتصَب منه وتُعطى للأجنبي! وعين شمس لن تصير بعد مكان ولادة كل إله»!
وكأنّ «نفر روهو» الحكيم كان يقرأ من اللوح المحفوظ، ويسجل نبوءاته التي رآها قبل عشرات القرون، وشاهد عبرها ما الذي سيحدث في مصر في مفتتح الألفية الثالثة، بعد نحو ثلاثة عقود من حكم الرئيس حسني مبارك.

آخر الكوارث

يبدو النظام المصري الآن كبيت قديم متداع!ٍ إذ لم يكن حادث سقوط جزء من صخور «جبل المقطم» على رؤوس سكان منطقة «الدويقة» العشوائية الفقراء، الذي أدى إلى انتشال 113 جثة ودفن بضع مئات أخرى، غير مؤكدة العدد، (يقدّرها بعض أهالي المنطقة بـ1200 ضحية!)، تحت الأنقاض والصخور، هو الأول من نوعه ولن يكون الأخير.
ولم يكن حدثاً مفاجئاً. فقد أضحى أمراً معروفاً وشائعاً، الخطر الدائم الذي يكتنف حياة نحو ربع المصريين (يحيون منذ عقود في مناطق العشوائيات وتخوم البؤس التي تحيط بالعاصمة المرهقة الضاجة بالصخب المستمر، وتناقضات الفقر المدقع والغنى الفاحش، والزحام الرهيب)، والذين ألقت بهم السياسات الاقتصادية للنظام إلى أوضاع الفاقة والحياة خارج شروط الأمان حتى في حدوده الدنيا.
ففي حادث «الدويقة» على سبيل المثال، ألّفت لجان، وعُقدت مؤتمرات، ونُظمت دراسات، واتُّخذت توصيات... قديمة، كتلك التي تضمنها تقرير «جيولوجية ومخاطر منطقة جبل المقطم»، الصادر عام 1997 الذي شاركت في إعداده «الهيئة القومية للاستشعار عن بُعد وعلوم الفضاء»، و«الهيئة المصرية العامة لبحوث الإسكان والبناء والتخطيط العمراني»، و«قسم الجيولوجيا» بجامعة عين شمس، وكلّها هيئات رسمية مرموقة، حذرت في تقريرها يومذاك من مخاطر السكن فى منطقة الهضبة العليا من المقطم، حيث تتسرب مياه الصرف الصحي ومياه ري الحدائق، متجمعة على عمق من 5 إلى 10 أمتار، من أعلى الهضبة، عبر التشققات الموجودة بطبقات الحجر الجيري، الأمر الذي يسبب تفتّت الأحجار وانهيارها على رؤوس الساكنين.
لكن بالطبع لم يتخذ شيء من الإجراءات، بسبب ترهل النظام واختلال سلم الأولويات، الذي تحتل فيه مثل هذه القضايا موقعاً متأخراً، ولأن النافذين في مراكز صنع القرار ومواقع التأثير لا يعنيهم هذا الأمر من بعيد أو قريب، قدر ما يعنيهم تكثيف عمليات «تجريف» الثروة الوطنية، ونهب كل ما يمكن نهبه من الملكية العامة، ونزح المليارات المتراكمة إلى خارج الديار.

مأساة العشوائيات

ولا يمكن إدراك مأساة «الدويقة» إلا إذا نظرنا إليها فى سياق رؤية عامة لأحوال سكّان المناطق العشوائية في «بر مصر»، التي تخبطت الأرقام الرسمية واختلفت ـ كالعادة ـ في تحديد عددها. ففيما يحددها «الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء» بـ 909 مناطق، يقدّرها مركز «المعلومات ودعم اتخاذ القرار» التابع لمجلس الوزراء، بـ 1034 منطقة، فيما تقدرها تقارير «التنمية المحلية» بـ1150 منطقة، ويقدر مركز «بحوث الإسكان» عددها بـ1174 منطقة. أما معهد «التخطيط القومي»، فيحددها بـ 1221 منطقة! وتصل نسبة الإسكان العشوائي لمجمل السكان في بعض المحافظات إلى نحو 20%، وتبلغ في محافظات أخرى، كمحافظة القاهرة، نحو 30%، أما في محافظة الإسكندرية فتبلغ 50%.

من حريق مجلس الشورى إلى صخرة الدويقة



وتبعاً لتقدير عدد هذه المناطق، يتباين تقدير عدد قاطنيها الذين يراوحون بين 12 مليون آدمي و17,7 مليوناً، وتقدّر بعض الدراسات عدد القاطنين فى تلك المناطق بما يقترب من العشرين مليوناً (بالنظر إلى صعوبات الحصر الدقيق لهذه الأعداد من جهة، وللتدفق البشري المستمر ـ بسبب تفاقم صعوبات الحياة واحتدام الأزمة المجتمعية ـ من المحافظات الفقيرة إلى العاصمة، القاهرة، بحثاً عن العمل والرزق، من جهة أخرى). وهذا معناه أن حوالى ربع المصريين يعيشون فى مناطق عشوائية، ونصف سكان القاهرة الكبرى تقريباً يقيمون فى مواقع لا تصلح لسكن الآدميين، فضلاً عن الملايين غيرهم الذين يحيون في مساكن حديثة البناء تعود إلى عقود ما بعد انتهاج سياسات انفتاح «السداح مداح» منذ السبعينيات، لكنها لم تتقيد بالمواصفات العلمية الصحيحة، أو استخدمت خامات بناء غير مطابقة للمواصفات.
ويتكدّس الآخرون فى بيوت قديمة آيلة للسقوط بسبب انعدام الصيانة تنذر أوضاعها بكوارث أفدح، وإن كانت واقعة فى مناطق لا تصنَّف باعتبارها مناطق عشوائية. ومثال على ذلك معظم مباني مناطق القاهرة القديمة، والكثير من أحيائها المتداعية، بفعل القدم والزحام وسوء الصيانة.

مدينة عشوائية... نظام عشوائي!

وهكذا، فأدق تصوّر لحصاد نحو ثلث القرن من حكم الرئيس مبارك (نائباً للرئيس ثم رئيساً مطلق الصلاحيات) يتجسد فى وضع العاصمة التاريخية للبلاد، القاهرة (الساحرة)، المدينة / الدولة، التي أراد الخديوي إسماعيل أن ينشئها على مثال العواصم الأوروبية الحديثة: باريس وروما وغيرهما! القاهرة الآن تنوء تحت وطأة الفوضى والإهمال والكسل، وغياب المنطق وانعدام الشعور بالمسؤولية من نظام هو ذاته أصبح نظاماً عشوائياً، شائخاً ومترهلاً، وممعناً في العجز والشلل إزاء الأحداث والوقائع الكبرى التى تتطلب المبادرة والكفاءة والحسم.
فعاصمة «أم الدنيا» التي تحتل مساحة 344 كيلومتراً مربعاً، تحوي الآن 81 منطقة عشوائية، يقطنها نحو 10 ملايين نسمة، ويتكدس هؤلاء البائسون في أكشاك الصفيح، وعلب الخشب والكرتون، وعلى سطوح المنازل، وبجوار الترع والسكك الحديدية، وفى البيوت الطينية، وتحت أبراج الضغط العالي، وفى القوارب ومساكن الإسكان «المؤقت» والغرف المشتركة البائسة التي أنشأتها الحكومة بعد أحداث زلزال عام 1992، ولم تتبدل حتى الآن! وهي جميعها تفتقر إلى الحد الأدنى من الخدمات والشروط الصحية، حيث يصبح مجرد حصول 17 مليون مواطن على حاجاتهم من المياه النظيفة الصالحة للاستخدام الآدمي، «أقرب إلى ممارسة شعائر اليأس»، حسب تعبير جريدة «واشنطن تايمز» الأميركية.
وفي بعض هذه «المكتظات»، يصل معدل التكدس السكاني إلى أعلى المستويات العالمية، مثل منطقة إمبابة بمحافظة الجيزة التي يصل معدل التكدس فيها إلى 110 آلاف نسمة لكل كيلومتر مربع، (نحو ثلاثة أضعاف النسبة العالمية المحددة للمدن الكبرى أي 38,5 ألف نسمة لكل كيلومتر مربع).
والأغرب أن أزمة المساكن المتفاقمة بلا علاج دفعت مئات الآلاف من المصريين الفقراء إلى سكن المقابر والجبّانات وأضرحة الموتى، يمارسون فيها كل طقوس الوجود والحياة، فى ظاهرة عزّ نظيرها فى أيّ مكان آخر من العالم!
وعند ذهابك إلى هناك، كما تصف الصحافية ياسمين ناجي، «فأول منظر تقع عيناك عليه هو جبال القمامة وجثث الحيوانات النافقة ووجوه بشر حزينة، تتحدث ملامحها وتشكو دون أن تصدر صوتاً، ويكفيك أن تنظر إليهم وهم يعيشون في «عشش» غير آدمية تحيط بهم القمامة من جميع الجوانب... أما الأرض، فيرويها الماء، ولكنه ليس كشبيهته. فهو ماء مجاري وصرف صحي، بينما الهواء يصعب عليك استنشاقه لأنك ـ ببساطة ـ ستجد نفسك قد وضعت منديلاً على أنفك، ليقيك شر الرائحة الكريهة. ومن المفضل وأنت في هذه الزيارة، أن تحترس من الحشرات والذباب والناموس!».
ومن الطبيعي، والحال هكذا، أن تتحول هذه المناطق إلى بؤر للعنف والجريمة والتطرف وتجارة المخدرات والممنوعات، وأن تصبح موئلاً للعاطلين والمتسولين والفئات الرثّة.

انشقاق طبقي

أدّت السياسات الاقتصادية المتّبعة، سياسات «السوق» و«الخصخصة» و«حرية العرض والطلب»، في ظل استراتيجيات «الليبرالية الشرسة» التي اتبعتها سلطة الرئيس مبارك، إلى «خلخلة» التوازنات الاقتصادية والاجتماعية، حيث جرى بيع أصول الدولة إلى المقربين من رجال المال والأعمال، وفي ظلّ «المصاهرة» التي رعاها نظام فاسد ومستبد بين السلطة والثروة، أتيح لفرد واحد، هو أحمد عز، أمين «لجنة السياسات» بـ«الحزب الوطني» الحاكم، حزب السلطة، وأهم عناصر «شلة» نجل الرئيس، جمال مبارك، ومحتكر صناعة الصلب في البلاد، أن يحقق 2,3 مليار جنيه أرباحاً خالصة في عام 2007، إضافة إلى ثلاثة مليارات أخرى، أرباحاً من المضاربة في البورصة، خلال شهرين اثنين فحسب.
وهذه السياسات المنهجية المتراكمة، دفعت إلى استفحال الوضع في مصر، وأدت إلى انقسام طبقي بالغ الحدة في المجتمع الآن، كما يرصد الأستاذ صلاح الدين حافظ، الصحافي بجريدة «الأهرام».
فبعدما كانت تتعايش تقليدياً في مصر طبقات ثلاث، ثرية، وفقيرة، وبينهما الطبقة الوسطى الأوسع والأكبر، أصبحت الصورة تنقسم إلى طبقة الأثرياء الجدد، وطبقة الفقراء الدائمين، وطبقة تحت حدّ الفقر، وهي مع الثانية «تضمّان أكثر من 95 % من الشعب المصري»، وأصبح من الطبيعي أن تتجاور في العاصمة الواحدة (التي يقتل فيها أب أطفاله الثلاثة بالسيف، لعجزه عن إطعامهم لمدة أربعة أيام، كما نُشر منذ أيام)، «مدن الصفوة»، التي يصل ثمن القصر الواحد فيها إلى 40 مليون جنيه، ومدن الفقر، التي أشرنا إلى عيّنة منها آنفاً.
لقد عادت سيطرة رأس المال على الحكم بأشد وأسوأ معانيها، وهو وضع يرى فيه المفكر الاقتصادي، الدكتور جوده عبد الخالق، «تهديداً صريحاً للأمن القومي».

«مافيات الأعمال»

وإذا علمنا أن ممدوح إسماعيل، مالك «عبّارة الموت»، التي راح ضحيتها 1033 مصرياً، وهاني سرور صاحب قضية «الدم الملوث» التي أصابت الرأي العام بالفزع، ومحمد أبو العينين، المتهم بتهريب «ممنوعات» وملايين من أقراص»الفياغرا» وسط مستلزمات مصانع السيراميك التي يملكها، ومحمد فريد خميس رجل الأعمال الكبير وصاحب قضية الرشوة الكبرى لبعض القضاة، وغيرهم من كبار أصحاب الثروات الفاحشة الذين طفوا على سطح الحياة المالية والسياسية فى السنوات الأخيرة، هم جميعهم من مستنبتات «صوبة» النظام ذاته، فليس من الغرابة أن يُبرّأوا من الجرائم المنسوبة إليهم، وهو ما يدفع الكثيرين إلى توقّع أن يبرّأ آخرهم، هشام طلعت مصطفى، المتهم بقتل اللبنانية سوزان تميم، هو الآخر، من جريمته البشعة، وخاصة أنه يمتّ بصلة مصاهرة إلى الأسرة الرئاسية.
وهذه «الشلة» من رجال المال والأعمال الجدد نمت، كما يكتب حمدي رزق في جريدة «المصري اليوم»، «في حجر أمانة السياسات (بالحزب الوطني)، نوع هجين، انكشارية بزنسية ملتحفة بكارتلات مالية مخيفة، لا «بتخاف ولا بتختشي»، مجترئون على القانون والنظام والدولة والبلد، متجاوزون لا يأبهون»!
ومن الطبيعي، فى ظل هذه الأوضاع الخطرة التي باتت تستفزّ قطاعات متزايدة لا تخفي سخطها على ما يحدث من انهيار عام فى البلاد، أن يصيب الهلع بعضاً من العناصر الأكثر إدراكاً فى النظام، مثل الدكتور مصطفى الفقي، المدير السابق لمكتب الرئيس مبارك، والسفير السابق، وعضو مجلس الشعب عن الحزب الوطني ورئيس لجنة العلاقات الخارجية بالمجلس، الذي لم يتمالك نفسه، للمرة الأولى، من تحذير السلطة تحذيراً صريحاً من «ثورة الجياع» التي اعتبرها «أمراً محتمل الحدوث، لأن القاهرة محاطة بحزام يتكون من 7 ملايين مواطن في المناطق العشوائية»، ناصحاً رجال أعمال نظامه بـ«تفعيل العدالة الاجتماعية، والدفاع عنها من جانب القطاع الخاص»، لضمان تجنب اندلاعها.

الحياة في جهنم!

وليت مأساة الوضع في مصر توقفت عند هذا الحد، فقد شبّت أخيراً موجة عاتية من الحرائق، اجتاحت مباني العاصمة ذات القيمة التاريخية، ومصانعها ومجمعاتها الثقافية والخدمية.
ففي شهر تشرين أول / أكتوبر الماضي وحده، شب أكثر من 250 حريقاً، تحالف الفساد العميق مع الإهمال الجسيم في ظل اهتراء النظام وتدني فاعليته، على مضاعفة آثارها، فالتهمت هذه الحرائق مستشفيات حكومية ومصانع (خاصة وعامة!)، ومواقع جامعية، ومخازن سلعية، و«مولات» كبيرة، وعمارات سكنية...
غير أن ما حزّ في نفوس المصريين كان الحريقين المروّعين لكل من مبنى مجلس الشورى، ومبنى المسرح القومي، لما يمثلانه من قيمة تاريخية وثقافية هامة. فالأول تحفة معمارية، أنشئ عام 1912 وشهدت قاعاته انعقاد كل المجالس التشريعية حتى عام 1918، ثم تحول إلى مقر لمجلس الشيوخ في ظل دستور 1923 وحتى عام 1952، وأغلق بعد ذلك حتى أعيد استخدامه مقرّاً لمجلس الشورى عام 1980.
والخسارة في حريق هذا المبنى لا تتوقف على الجانب العمراني وحده، بل تمتد إلى الوثائق التاريخية البالغة الأهمية التي التهمتها ألسنة النيران: جميع مضابط البرلمان المصري منذ إنشائه، خطب الملوك المصريين أمام البرلمان ومستندات ترشيح الرؤساء، والأرشيف الكامل للبرلمان، وغيرها من الوثائق التى لا تقدّر بثمن.
أما مبنى المسرح القومي، فقد أسّسه الخديوي إسماعيل عام 1870 على أراضي بركة الأزبكية، وأعيد تجديده عام 1920، لكي يكون شاهداً على «رحلة المسرح الحديث منذ مولده، من مسرحيات يعقوب صنوع الاجتماعية الخفيفة، إلى وقتنا هذا، رحلة دامت أكثر من 138 سنة هي عمر المسرح في مصر» (سهى علي رجب، جريدة «القاهرة» 7/10/2008). وكان أكثر ما لفت الانتباه في هذه السلسلة من الحرائق هو بؤس عمليات مواجهة النيران والسيطرة عل ألسنتها، على الرغم من الملايين التى تصرف في عمليات التجديد والتأمين، وتبدّى عجز النظام فادحاً مع فشله في إنقاذ مجلس شوراه من الحريق الذي أتى عليه بالكامل، على الرغم من أنه يقع في قلب «مجمّع السلطة» الذي يضم إضافة إليه، مقر مجلس الوزراء، والعديد من الوزارات الهامة، ومقر مجلس الشعب أيضاً.

غروب نظام

والمثير في هذا الحدث بالذات ردود فعل الجماهير العادية التي ـ مع أسفها لاحتراق المبنى التاريخى ومحتوياته ـ أبدت شماتة واضحة، استفزّت أركان النظام، فراحوا يفسرونها باعتبارها نوعاً من «عدم الانتماء» وغياب الولاء! وكانت أغلب التعليقات الشعبية التي تناولت هذا الأمر قد تمنّت، بدون مواربة، لو أن الحريق كان في الصباح، أي فترة دوام أعضاء المجلسين المتجاورين «الشعب» و«الشورى»، «حتى نتخلص منهم جميعاً!».
ومفهوم طبعاً أن هذا الشعور كان يعكس انعدام الثقة وكره الشعب لهاتين المؤسستين، إذ لم يرَ منهما إلا أدواراً مناوئة لمصالحه، ومتآمرة على لقمة عيشه.

و... شروق شعب

لكن حركة الشعب المصري لم تتوقف عند حدود الشماتة والتشفّي، بل تتطور شيئاً فشيئاً باتجاه بلورة حركة شعبية بديلة، يرى المفكر الكبير الدكتور سمير أمين أنها وصلت «مرحلة جديدة من النضج فى السنوات الخمس الأخيرة».
فمنذ سنوات، جذبت حركة «كفاية» الأضواء، وحركات سياسية أخرى تطالب بالتغيير (السياسي). والآن المشهد يتغير، الحركات والمطالب الاجتماعية دخلت الساحة واتسع نطاقها. والأهم من ذلك أن كل هذه الحركات تبحث عن أشكال تنظيمية مستقلة، وتحرز انتصارات يومية صغيرة.
إن مسلسل الكوارث التي لا تنقطع، والحرائق الممتدة في مصر، لا يمكن النظر إليه باعتباره مجرد سلسلة من الحوادث العارضة أو المشكلات العابرة، يُسأل عنها «القدر» وحده، الذي اتهمه فاروق حسني، وزير الثقافة، بالتسبب في حريق المسرح القومي، قبل أن يعود ليؤكد أنه جرى «بفعل فاعل»، بل ينبغي النظر إليه من منظور التردي العام لأداء النظام الشائخ والمترهل، الذي يحكم مصر منذ قرابة ثلث قرن. فما حدث من حريق لمبنى مجلس الشورى، ومن سقوط لصخور جبل المقطم على رؤوس البؤساء من المواطنين الفقراء المهمّشين، والكوارث السابقة واللاحقة، كلها تأتى كإشارات بالغة الدلالة على أفول عهد وغروب نظام ونهاية سلطة.
* مهندس مصري
وأحد مؤسسي حركة «كفاية»