عباس المعلمرغم أنّ عنوان القمة التي جمعت الرئيسين فلاديمير بوتين وجورج بوش في المقر الصيفي للرئيس الروسي السابق ورئيس الحكومة الحالي في سوتشي على الشواطئ الرومانسية للبحر الأسود، كانت الصراحة، أو بمعنى آخر، غسيل القلوب، إلا أن هذا الأمر لم يمنع من وجود تباينات يصح وصفها بالخلافات الاستراتيجية. على الرغم من إعلان النوايا بينهما الذي تضمّن أن الولايات المتحدة وروسيا لم تعودا عدوّين، ولا تمثّلان تهديداً استراتيجياً الواحدة للأخرى، وعبّرا عن نية لديهما بتقليص ترسانتهما النووية، وعزمهما على إنشاء نظام دفاعي صاروخي تشارك فيه أوروبا ضمن توسيع أطلسي، كان واضحاً أنّ شيئاً ما لا يسير على ما يرام.
بنظرة سريعة إلى هذه التوصيات الإنشائية التي تأتي في سياق المجاملة السياسية، وفق تقاطع فرضته التغيّرات الطارئة، تتمثّل بهدنة بين الطرفين تقضي بتخفيف الضغط عن الرئيس الأميركي جورج بوش قبل أشهر من نهاية ولايته، يظهر أنّ بوتين يعمل على ترتيب صيغة إدارة الحكم في بلاده وعدم وضع أية عراقيل قد تواجه الرئيس الجديد (ميدفيديف)، ما يعني أن الصراع الاستراتيجي (الحرب الباردة الجديدة) بين الطرفين كان يتخذ سياق الهدنة المرحلية على الأقل حتى تتبيّن الرؤية السياسية للإدارة الأميركية الجديدة.
وعندما نطرح «الخلاف الاستراتيجي»، ننطلق من أن روسيا أصبحت بعيدة عن أوروبا وحتى عن الدول السوفياتية القديمة التي تتسابق للانضمام إلى الحلف الأطلسي كشرط أو كمعبر إلزامي لدخول الاتحاد الأوروبي ودعم اقتصادها، وما يؤكد ذلك الدعم الأميركي المطلق لدخول أوكرانيا وجورجيا إلى «الأطلسي» والرفض الروسي المطلق لهذا الأمر والتهديد بالقوة لمنعه، بعدما شعر الدب الروسي بأن أميركا وأوروبا يعملان على محاصرته ومنعه من التقدم، والحد من طموحات بوتين وفريقه السياسي من استعادة المجد السوفياتي كمنافس قطبي للولايات المتحدة.
وتستخدم الإدارة الأميركية الحالية سياسة تمويهية في الصراع مع الروس، تظهر أن واشنطن مهتمة بمحاربة الإرهاب «الإسلامي» وحماية الديموقراطية، وأن الحرب على الشيوعية قد ولّت إلى غير رجعة. وقد يكون الأميركي يمارس هذه السياسة بصدق فعلاً، لكنه يجابه الروس ليس وفق قاعدة مواجهة الشيوعية، بل لمنع قيام أي قطبية أخرى بوجهها من المفترض أن تكون روسيا عمودها الفقري.
وفي ظل غياب القيادة الأوروبية حتى داخل الاتحاد الأوروبي وتراجع الدور الفرنسي والتحاقه بالركب الأميركي منذ أن سلك الرئيس شيراك الطريق الخطأ في الشرق الأوسط، وتبعه ساركوزي الضعيف داخلياً والمرتبك خارجياً في الولاء لسياسة واشنطن، ومع غياب بريطانيا كعنصر فاعل على الساحة الدولية من جراء مشاركتها في غزو العراق، تبدو روسيا في موقع يحتّم عليها مراجعة حساباتها داخل البيت الأوروبي، وأن سياسة الجفاء والعلاقات الرسمية البروتوكولية مع جيرانها الأوروبيين، تصب في مصلحة واشنطن التي تفرض بذلك اقتناعاً لدى الدول الأوروبية أن الأطلسة قوة وضمانة لهم. لذلك يترتب على ميدفيديف وبوتين إجراء ترميم للعلاقات مع أوروبا وإقناعها بحلف مشترك يمثّل ضمانة استراتيجية لطرفين.
وفي السياق نفسه، نجد أن روسيا أمام اختبار حقيقي في قدرتها على النجاح بتكوين قطبية جديدة مواجهة لأميركا وتحكّمها بإدارة العالم، ولا أعني بذلك أن العالم سيكون أفضل بقيام قطبين، بل تعدد يضم دولاً إقليمية متنوعة العرق والدين والثقافة قادرة على الحفاظ على الأمن العالمي ووقف التسلط والهيمنة الأحادية، وهذا الأمر ضرورة للروس قبل غيرهم. وعليه، يجب أن تجهد الإدارة الروسية بإقامة علاقات متينة وشجاعة مع العالم العربي والإسلامي، مستغلة بذلك العداء المستفحل بين أميركا من جهة والعرب والمسلمين من جهة أخرى، لأن هذا العداء لا يبدو أنه سينتهي مع رحيل بوش، والسبب أن التراكمات الكبيرة التي حصلت في هذا السياق تركت تداعيات سلبية على الصعيد الحضاري والثقافي. وبالطبع، فإن روسيا مدعوّة لحوار صريح يصنع حلفاً حقيقياً، ليس كما كان حال الحلف القديم مع الرئيس الراحل جمال عبد الناصر واستمر مع الرئيس الراحل حافظ الأسد، والذي كانت فيه المصلحة السوفياتية هي الأولوية لا المصلحة المشتركة، واليوم يبدو العرب والمسلمون لديهم قدرة على استيعاب حليف استراتيجي خال من الشيوعية المعادية للدين أكثر من قدرتهم على تحمّل الجنوب الأميركي المعادي لدينهم وحضارتهم، والذي سبّب لهم الحروب والفوضى، وخلق صراعات عرقية وطائفية تهدد أوطانهم.
لذلك لا يمكن أن تلعب روسيا دوراً مواجهاً لأميركا، وتستخدم الشرق الأوسط ساحة لهذا الغرض، وخصوصاً في العراق وأفغانستان، لأن ذلك سيرتد سلباً عليها ويقوّي النفوذ الأميركي، بل يجب عليها أن تقدم المشروع البديل الذي يتقاطع مع مصلحة شعوب المنطقة.
ولتحقيق هذا الأمر، لا بد من إقامة حلف متعدد يبدأ بإيران وباكستان وتركيا والصين وكوريا الشمالية، يُضاف إليه تحالف مع الدول الاشتراكية في أميركا اللاتينية، يترافق مع حلف ندّي مع العرب، يبدأ باستعادة السعودية ومصر من المحور الأميركي، وهذا يتطلب من الروس تقديم سلوك مختلف عن السابق يرعى مصالح الحلفاء، وأن لا يكون حلفاً كلامياً لا يتعدى حدود التحفّظ أو الامتناع عن التصويت في مجلس الأمن.
من المؤكد أن روسيا أمام فرصة ذهبية لاستعادة قوتها ونفوذها في العالم بعد ما حصل في جورجيا وكشفه لدور إسرائيل في دعم الجيش الجورجي، لكن ذلك يتطلب منها الاعتراف بقوة الدول الأخرى والتخلي عن حلم القطبين.
ولعل بوتين ومعه ميدفيديف يسيران في هذا الطريق، لكن ببطء وحذر قد لا يحققان الأمل المرجو لديهما على المدى القريب، من هنا لا تبدو قمة «الشواطئ الرومانسية» كذلك، بل هي هدنة العداء الاستراتيجي المستمر بحرب قد لا تكون باردة كما يتوقع البعض، بل حارة جداً، ومنها يتبيّن الرسم الجديد للعالم وكيفية إدارته.