حتى مطلع التسعينات، كانت السريّة تتحكم في العطاء خلال شهر رمضان. فلا المحسن كان يعرف الذين يتكرم عليهم، ولا هم كانوا يعرفونه. اليوم، بات المحسن في معظم الأحوال، مرشحاً مفترضاً للانتخابات النيابية، والمحسن إليهم مجموعة أسماء رتبت وفق قوائم انتخابيّة. وباتت الصدقة التي يحتمل أن تدخل المحسن إلى الجنة، بطاقة دخوله شبه الأكيدة إلى المجلس النيابي
غسان سعود
ضمن لعبة «كان وبات» يذكر أحد منظّري «قهوة التل العليا» في طرابلس، أن حجم الإحسان والكرم كان أكبر رغم أن المكرمين اليوم باتوا أكثر. معلّلاً السبب بوجود مافيا من التجّار والسماسرة و«المفاتيح الانتخابيّة» تنتظر «شهر الكرم» لتكرم نفسها.
وفي التفاصيل، بدأت ظاهرة توزيع الإعاشة في رمضان علناً عام 1992 مع توزيع المملكة العربيّة السعوديّة قرابة مليون «كرتونة». حملت تلك الكراتين توقيع «خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز»، ووزعت في معظم مناطق لبنان. و«انسجاماً مع فرح الناس بهذه الخطوة من جهة، والانحدار العمودي لمستوى المعيشة من جهة أخرى، يقول أحد مفاتيح «تيار المستقبل» في الشمال، تابع الرئيس الشهيد رفيق الحريري هذا التقليد». وصارت الكرتونة جزءاً أساسياً من «المظاهر» الحريرية في رمضان، التي تابعها ورثة الحريري السياسيّون. فكانت الكرتونة، بحسب «مفتاح» معارض، تكبر أو تصغر وفق مواعيد الاستحقاقات.
وفي طرابلس اليوم، يتنافس السياسيّون على من يكون الأكثر كرماً بينهم فتتقدم حظوظه في الدخول إلى الجنّة النيابيّة. إذ تعاقد الرئيس نجيب ميقاتي، بحسب مصادر شماليّة، مع قرابة 20 مطعماً ليقدّم يومياً 5000 وجبة إفطار، تضاف إلى «الكراتين» التي تنطلق من مستودعه الكبير في منطقة «المعرض» إلى كل المنازل الطرابلسية. حالها من حال «كراتين» الوزير محمد الصفدي، الذي من المفترض أن مفاتيحه بدأوا اليوم بتوزيعها على الأنصار. وقال اثنان من كبار تجار مواد «السمانة» في طرابلس إن مسؤولي «تيار المستقبل» في المدينة تعاقدوا معهم لتسليم ثلاثة آلاف كرتونة يومياً، تحتوي كل منها على زيت وسمنة وطحينة وسكر وأرز ومعظم أنواع الحبوب، بقيمة تراوح بين أربعين وخمسين دولاراً. ولم تقف «جبهة العمل الإسلامي» متفرجة، فنزلت على الأرض لتوزع الكراتين على أنصارها. وهناك طبعاً النائب موريس فاضل، الشهير بكرمه، والذي يطلق عليه الطرابلسيون منذ سنتين لقب محمد موريس فاضل لكثرة إحسانه في رمضان.
والمطلوب، للحصول على كرتونة من كل هؤلاء السياسيين، مجرد إخراج قيد عائلي ورقم تلفون. وبعد أن يسجل الناس أسماءهم، يتصل بهم أحد الموظفين في مكتب السياسيين الانتخابي، ليتأكد من المعلومات التي لديه في إخراج القيد، ومكان السكن. وليتعرف على المحسن إليهم، على أمل «البقاء على تواصل». واللافت هنا، أن معظم الطرابلسيين يرون أن ردّ الجميل للمحسنين واجب، حتى لو كانت نيّة المحسن سيئة. في وقت، يجاهرون فيه بحصولهم على أكثر من كرتونة، من أكثر من سياسي.
وفي بيروت، المدينة التي اشتهرت بكثرة عمال الخير، زيّت «تيار المستقبل» ماكينته الرمضانيّة بتوزيعه قبل قرابة شهر «مساعدات مدرسيّة» بلغت 300 ألف ليرة لبنانية على أول ولد في كل عائلة، و200 ألف على بقية الأولاد. ويجري ملء الطلبات لتقديمات الحريري الاجتماعيّة والغذائيّة، عند اللواء المتقاعد محمد قبرصلي في مكتب عند طلعة فاخوري، قرب قصر قريطم. وأكد بعض المواطنين أن نوعية المواد الغذائية في الدفعة الأولى من إعاشة «مؤسسة الحريري» كانت سيئة، الأمر الذي استدعى من المؤسسة إلزام المتعهد الجديد وضع لائحة في كل كرتونة تعدد ما فيها بحسب النوع والكميّة وتاريخ الصلاحية، في محاولة للحد من «التلاعب» بالمواصفات. ويجري التوزيع في بيروت عبر الجمعيات والأندية والمخاتير لا عبر النواب، باستثناء النائب ميشال فرعون. وقد حصل منذ قرابة عشرة أيام لقاء للجمعيات البيروتيّة في «فندق الريفييرا» للبحث في تنظيم نشاطات شعبية ـــــ حريريّة عدّة خلال شهر رمضان. ويحاول «تيار المستقبل» بذلك الاستفادة من الشهر لشد عصبه، وإعادة تنظيم ماكينته. وثمة معلومات بيروتيّة عن حجز «تيار المستقبل» مجمع «البيال» طيلة رمضان، لاعتقاده أن قصر قريطم لا يتسع وحده لجمهور المحبين الذين يودون تناول الإفطار على مائدة زعيمهم.
ومؤخراً، دخل على خط حرف المساعدات الخيرية عن بعدها الديني، رجل الأعمال فؤاد مخزومي الذي يكثّف كرمه في بعض الأحياء البيروتيّة، وسط كلام شعبي، عن أن كراتينه «أكبر وأفخم من كراتين الحريري».
وبدوره، لم يكتفِ مكتب النائب ميشال فرعون بتوزيع الكراتين «على نيّة الرئيس الشهيد رفيق الحريري»، فوضّب أخرى باسم فرعون شخصياً، الذي لم تمنعه كاثوليكيته من السعي لفعل الخير بالمسلمين. وينسق فرعون في هذا السياق مع أحد مسؤولي «تيار المستقبل» في الأشرفيّة. وقد استعانا بشبكة من المخاتير يتقدمهم إيلي صبّاغة وفؤاد حداد والياس جريس. وهناك، غير المخاتير، 3 مكاتب أساسيّة للتوزيع: واحد قرب ساحة ساسين، وواحد قرب مستشفى الروم، وآخر على طريق النهر. اللافت أن الكراتين توزع في الأشرفية على المسيحيين قبل المسلمين، وفيها علب «لحم حلال» صنعت في السعودية.
هكذا، تصبح اليد اليسرى، دقيقة المعرفة بما فعلته اليمنى. وبالنتيجة، يعرف معلبو «الكراتين» ومعدّو لوائح المحسن إليهم، من معهم، ومن عليهم في الانتخابات المقبلة.