في عاصمة الشمال المعروفة بـ«أم الفقير، والتي ما زالت تعرفة السرفيس في بعض أحيائها 500 ليرة، يكسر الشهر بمروره هذا العام قلوباً اعتاد إسعادها
طرابلس ــعبد الكافي الصمد
«هادا (هذا) غير رمضان يللي بنعرفو، هيدا رمضان بيكره الفقرا». هكذا أجابت السيدة أم محمد عن سؤالنا بشأن استعدادها لاستقبال شهر الصوم، في وقت كانت تختار فيه بعض حبات البندورة لتشتري منها كيلوغراماً واحداً تصنع منه «جاط تبّولة للعيلة» من إحدى البسطات المتناثرة بشكل فوضوي في محيط مجرى نهر أبو علي.
في تلك الناحية المكتظة بالسكان والواقعة وسط طرابلس القديمة، يغيب تماماً هذا العام أي مظهر احتفالي بقدوم رمضان. ففي هذه البقعة التي يحدّها «حزام بؤس» من المناطق الفقيرة، الذي أصبحت أسماء بعض أحيائه شهيرة كباب التبانة وباب الرمل، يختفي أي أثر للزينة أو لتلاوة آيات أو تواشيح دينية كانت تبثّ من مكبّرات الصوت مضفية على الفيحاء جواً مميزاً.
لا يعود الأمر إلى غياب رغبة الأهالي في الاحتفال بالشهر، فهم ينتظرونه سنوياً، لكن تدهور الوضعين الأمني والمعيشي جعل الاحتفاء بالمناسبة ترفاً ليس على سلّم أولويات الكثيرين. يسأل سائق التاكسي محمد المصري الذي يعمل على خط التل _ القبة سؤالاً جوهرياً «كيف أحتفل برمضان وما زلت لا أستطيع العودة إلى بيتي الموجود على خط التماس؟». وإذا كان الوضع الأمني قد أسهم في اختفاء مظاهر الفرح وغيّب الخيم الرمضانية التي انتشرت بكثرة في السنوات السابقة، وزرع الخوف من المجهول وما قد يحصل من «تطورات ما منيحة» وفق قول المصري، فإن تراجع قدرة المواطنين الشرائية بات الهم الأكبر لدى الغالبية منهم. ما دفعهم للالتفات نحو «كرتونة الإعاشة» ووجبات الإفطار الجاهزة، والمساعدات التي تتسابق جهات سياسية وخيرية على تقديمها إلى الفقراء والمحتاجين، الذين تتزايد أعدادهم سنوياً بشكل لافت في عاصمة الشمال.
والنموذج الأبرز للانكماش الاقتصادي في وضع الأسر وقدرتها على الإنفاق، يمكن ملاحظته في تراجع الحركة في سوق الخضر للبيع بالمفرق على كورنيش نهر أبو علي، في موازاة تقلّص وجود البضائع فوق البسطات وعربات الباعة إلى أقل من النصف. «كانت البضايع تتكدس عندنا متل الجبال، والناس متل النمل هالأيام بالسنوات السابقة، كلو راح وكل شي تغير»، يقول أحد أصحاب البسطات في المنطقة. وغير بعيد عن ذلك، فإن المشهد في سوق الخضر الرئيسي للبيع بالجملة في باب التبانة لم يكن مغايراً. فزحمته المعتادة التي كانت تبلغ ذروتها في مثل هذه الأيام اختفت. ولم يشهد السوق سوى «تنقيرات عالخفيف»، على حد قول محمود عبد الفتاح صاحب أحد محال السوق الذي يلفت إلى أن «رمضان الماضي كان أحسن»، رادّاً السبب إلى «طفر الناس، وفقرهم وخوفهم»، ومشيراً إلى أنه رغم كل ذلك فإن الأسعار ارتفعت، أكثر من الضعف، «صار صحن الفتوش بدو معاملة» يقول معلقاً.
هذا الارتفاع في الأسعار شكت منه سمر طبيخ، التي أشارت إلى أنها لاحظت ارتفاعاً جنونياً عندما ذهبت للتسوق: «اكتفيت بالضروري الضروري»، شرحت الأمر باختصار. اشترت خصوصاً الخضر والفواكه والحبوب والمكسرات والعصائر، لكنها فضّلت عدم شراء اللحمة حالياً «لأن انقطاع الكهربا خراب بيوت».
ومع أن طبيخ ردت تراجع حركة البيع والشراء إلى أن «الموظفين لم يقبضوا رواتبهم بعد، وأن أول يوم في رمضان (اليوم الاثنين) رح يكون مختلفاً»، فإنها لم تملك منع نفسها من التعبير عن مكنوناتها من أنه «ما بقا في شي بهالبلد منيح، صار أحسن شي السفر».