أبراجٌ، أبراجٌ. أبراج! أبراجٌ منعزلة، متعالية، قامعة، أو أحياءٌ كاملةٌ من المباني البرجية، للتجارة والأعمال، وربما للسكن أيضاً. افتتان متزايد بالمباني التي تبالغ بارتفاعها، ينتشر من أوروبا وأميركا وآسيا وأفريقيا وأوستراليا، الى دبي، والدوحة والرياض وجُدَّة وبيروت والقاهرة، كما يشهد بداياتٍ له، في عمَّان وفي العقبة
رهيف فيّاض *
في محاولة معالجة هذا الموضوع، نطرح مجموعة من التساؤلات التي تفرض نفسها، لعلّها تساهم في توضيح إشكاليّة الأبنية البرجيّة على الصعد الهندسيّة والإنسانيّة:
1 ـــ هل المبنى ـــ البرج، هو دلالة الثروة؟ هل هو التعبير الصافي عن جبروت رأس المال؟ والمثالُ الصارخُ عن الركض وراء الربح؟ فتزدحم الناس في الطوابق المكدَّسة، في لهاثٍ وراء عزلةٍ مُتوَهَّمة، وحريةٍ متخيَّلة، يصنعها التفرُّد برؤية آفاق لا حدود لها؟ كلُّ ذلك، لتزداد عائدات المستثمرين في العقار؟
2 ـــ أم إنه حضورٌ طاغٍ للتقنية وللتكنولوجيا المتقدمة، في البنيان المعاصر، وهو يحكي بالتالي، قوة الإنسان، وتصدّيه الناجح لتحدّي التجاوز؟ تجاوزه المتجدّد لذاته، ولقدراته؟
4 ـــ أم إنه منجَزٌ مدهشٌ، تتعرَّف من خلاله المدينةُ على ذاتها، ويكون بالتالي رمزاً، يختصر كامل المجال، حيث يبنى؟
عرفت الإنسانية المباني المرتفعة منذ بابل وبرجها. وتعدّدت التجارب في هذا المجال، منذ بداية القرن العشرين حتى يومنا. نذكر منها برج أيفِل في باريس، وأعمال أوغُست بيريه في فرنسا، وبرج إلّينوي في أميركا، وقد صمّمه فرانك لويد رايت، وأبراج إيفان ليونيدوف في موسكو، والمباني المرتفعة في مدينة شيكاغو... وغيرها مما لا ضرورة لذكره.
وقد دلّت المواقف المفهوميّة من الأبراج، وأساليب المقاربات المختلفة لهياكلها الإنشائية خلال القرن العشرين، دلَّت هذه المفاهيم وهذه الأساليب على مراحل، على عتبات.
ابتدأت هذه المراحل: بالتوسّع في استعمال المادة، ثم بالابتكار في تطبيق قواعد الفيزياء، فظهر الارتفاع في المباني، كشكل من السمو بالعادي المألوف. حصل ذلك، عندما فرض منطق «جلد العمارة» نفسه على البنيان المعاصر.
ثمّ، وليزداد ارتفاع المباني، أُضيفت إلى الهيكل الإنشائي المعدني السائد، نواة من الخرسانة المسلحة. وما لبث بعد ذلك، أن دَمَج الإنشائيون المبتكِرون الهيكلين المعدني والخرساني. كلّ ذلك، ليغدو المبنى أكثر ارتفاعاً.
كيف تبدو المباني البرجية في محيطها؟ معظم المدن الكبرى في العالم، ومعظم المدن الكبرى في الوطن العربي أيضاً، لا تزال مدناً أفقية. فباريس مدينة أفقية بامتياز، مع برج يتيم معزول وسط النسيج المديني في دائرة «مون بارناس»، وحي الأعمال البرجي في دائرة «الديفانس». وروما أفقية بامتياز أيضاً، ولندن هي شبه أفقية، مع وجود يزداد باطّراد، للأبنية المبالغة بالارتفاع.
لا يصحّ هذا التوصيف بالطبع، عند مقاربتنا للمدن الكبرى في الولايات المتحدة الأميركية، في نيويورك ومانهاتن، وفي شيكاغو، وفي ما يسمى «الداون تاون» في المدن الكبرى.
أما في الوطن العربي، فدمشق وحلب وعمّان مدن أفقية، مبانيها منتشرة بارتفاع شبه موحّد على مجموعة من التلال، بالإضافة إلى تونس، والدار البيضاء، ومرّاكش، وطرابلس، وغيرها من مدن المغرب العربي، التي لا تزال كلّها إلى الآن مدناً أفقية.
أما بيروت، فقد تحوّلت خلال العقود الثلاثة الأخيرة، من مدينة أفقية إلى مدينة ذات منحى عمودي واضح، تتجه فيها المباني باطّراد نحو الارتفاع المتزايد. وحمّى الأبراج كما سبق وأشرت، تلتَهم المزيدَ من تراب الخليج العربي، ومن مياهه المردومة. إشكالية فريدة متعدِّدة الأبعاد، تحدّد علاقة المبنى ـــ البرج في المجال حيث يُشاد:
1 ـــ فالبرج المنعزل، أو الحي البرجي للأعمال أو للسكن إذا وجد، عليه أولاً أن يكون له بُعدٌ أشهاريٌ، بُعد العلامة الفارقة، وشهادةُ التميُّز، وصفحةُ الإعلان الكبرى في المجال. وحبَّذا لو أشارت هذه الصفحة الإعلانية، إلى مرافق مدينيّة، أو إلى مؤسّسات عامة.
2 ـــ وعليه ثانياً، رغم قساوة ارتفاعه، وشدّة التوتر الذي يزرعه في المكان حيث يقوم، وتأثيره المدمِّر على النسيج المديني حوله، عليه رغم كل ذلك، أن يحمل بعض ما يستطيع إضافته إلى السياق العام حوله، ليبدو متناغماً معه. أي عليه أن يرتدي بعداً سياقياً يخفِّف من عزلته، ومن غطرسته، ومن سلبية حضوره، فيتكامل مع المدينة وإن بنجاح جزئي، ويساهمُ في صياغة شكلِها العام، ويؤدّي بالتالي إلى القدرة على قراءة هذا الشكل، وإلى سهولة فهم الناس له.
3 ـــ وعليه ثالثاً في السياق العام الذي أشرنا إليه، أن يتحلّى بالقدرة على ابتكار تقاطعات واضحة، بين الحضور الإنشائي المثقل بالتعقيدات، والحضور الإيكولوجي الضروري.
4 ـــ وعليه رابعاً، بالإضافة إلى كونه معلماً بارزاً، أن يُعيد الحياة إلى حي أو إلى جزء من المدينة، عبر المنشآت العامة التي يحويها من محطات النقل، والمتنزّهات، وكل الإطلالات الممكنة على المدينة من الحيّز العام الواجب الوجود فيه، بالإضافة إلى تعدّد وظائفه، وتعدّد الانتفاع به، مما يجعله يضج بالحياة ليلاً نهاراً.
5 ـــ وربما كان عليه أحياناً، وفي حالات فرديّة نادرة، أن يحقّق إنجازاً تقنياً ومعمارياً فذّاً يضعه في سياق العمارة الاستشرافية، الاستباقية، الرؤيوية، التي عرفناها في الستينيات من القرن الماضي، مع أرشيغرام، والميتابوليسم، والميتابوليسم + موفوزيس، وغيرها من التصوُّرات ـــ الرؤى.
إلامَ يهدف مصمّمو الأبراج وبُناتها، في مجتمع ما؟
سنتساهلُ، أو سنتفاءلُ إذا أردتم، ونرى، أن مصمِّمي الأبراج وبُناتها، في مجتمع ما، إنما يهدفون إلى تأكيد الثقة في مكوّنات هذا المجتمع، الاقتصادية، والاجتماعية، والسلوكية، وإلى تثبيت الثقة في قِيَمِه أيضاً. وتُصبح العمارة دفعةً واحدةً، رمزاً لكلّ ما هو إيجابيّ. إذ أنّ الحصول على مستوى عالٍ من الأداء في ما يبنى، يتمُّ وسط حماسة عامة تحيط بعملية البنيان. والشغف بالأبراج، هو اليوم في أوجه.
ولكن، هل نستطيع أن ننسى أن هذه المباني المدهشة، لا قيمة فعليّة لها، إلا بكونها نماذج عن تفوق تقنيٍّ صافٍ، يحوّلُها إلى رموزٍ وشعاراتٍ معمارية، يرادُ لها أن تكون بمقياس ما يسمّى «بالمدن الحديثة»؟
فالبرج كمجالٍ مبنيٍّ، يفرضُ نفسه بقوّة في نظر الجميع، وفي المتخيِّل لدى كل واحد منا. إنه رمز العمارة بامتياز كما يزعم البعض، وهو يُصبح بالتالي، وفي أفضل الأحوال، أيقونة المدينة، ومثالاً للبنيان ذي الجودة المميّزة، في كل متطلباته.

تألُّق التقنية وفقر الأداءهكذا، كانت الحال منذ أن كانت العمارة، وطوال تاريخها. من أهرام مصر على حدود منبسط الجيزة، تُرى من بعيد في الوادي، وكأنّ الصحراء قد ارتفعت نحو السماء، إلى مجموعة نيويورك اللمّاعة قبالة المحيط.
وإذا كان البرجُ، ذلك المصنَّع ذا الشكل الذي نتعرّف عليه بسهولة، بحيث يمكن تحويله في وجدان الناس إلى تعويذة أو ذكرى، فلا يمكننا أن نختصره بكونه أيقونةً مستقلةً. إذ أن صداهُ في المجال الحقيقيِّ حولَه، هو الذي يؤكِّد قيمةَ التعرُّف عليه من الجميع سكاناً كانوا، أو سياحاً، أو معماريين، أو مجرّد مارة.
فالمبنى ـــ البرج في المدينة، يساهمُ في اختصار روحها في شعار يفهمه الجميع. وأن نبني برجاً، يعني أن نبني دلالة قوَّة، وأن نطلق التحدّي للتفوّق ولتجاوز الذات، في الوقت ذاته الذي يتمُّ فيه صهرُ الجماعة، عبر شعورها بالانتماء إلى العمل العظيم، هذا ما يعتقده البعض على الأقلهل تتناقض المواقف من بناء الأبراج، ومن مقولة عمودية المدن؟
في البدء كانت كل المدن أفقية قبل أن يصبح بعضها عمودياً، فهل تتوحّد مواقف الناس من بناء الأبراج؟ ومن رؤية مدينتهم تزدادُ مجالاتُها توتُّراً، بتوجُّه أبنيتها بشكلٍ مبالغٍ فيه نحو السماء، وكأنها تخلّت عن الأرض الصلبة التي يعيشون عليها؟
الإحساسُ حيال بناء الأبراج في المدن يتمّ بطريقتين متناقضتين مختلفتين باختلاف الحضارة المدينية التي يعيش فيها كل من طرفي المعادلة. الطرف الذي يقبلُ الاندفاعَ المجنونَ نحو السماء، كتقدمٍ نحو ما يسمّيه «الحداثة»، تقدم لا يمكن وقفُه، بتصوُّرِه. والطرف الآخر، الذي يرى أن الحياة المدينية لا يُمكنها أن تتطوّر طبيعيّاً، إلاَّ بعلاقةٍ مباشرةٍ وصلبةٍ وغنيَّةٍ وثابتةٍ مع الأرض.
في ظل هاتين القراءتين المختلفتين، تأخذ المدن موقفين متناقضين.
فالبرج المنفرد المنعزل، في بعض المدن الأوروبية، هو نوع من العلامة النادرة، مع نشازٍ يقاربُ «المافوق إنساني».
فقبب كنيسة «الساغرادا فاميليا» أو «العائلة المقدَّسة» في برشلونة التي صمّمها غَودِي، يمكنُها أن ترتفع خارجَ شبكة «إدلفونسو سردا» القاسية، لتقترِحَ التذكيرَ بالإلهي، الذي لا يمكن للإنسان أن ينساه. والرغبة الحاليَّة للمدينة أي لبرشلونة، في الحضور على المقياس الأوروبي، قادها إلى القبول بتشييد برجين متجاورين على الواجهة البحرية بمناسبة الألعاب الأولمبية في عام 1992، وإلى برج أغبار (AGBAR) أي برج مياه برشلونة، ومصمِّمه جان نوفل، الذي بُني في الفترة الأخيرة. ويعودُ إلى هذه الأبراج وقد قَبِلها الناس، أن تجسِّد الجهدَ المبذول لحضورِ المدينة الكامل، على المسرح الإسباني والعالمي.
وهيمنةُ البرج بشكلٍ عامٍّ في المجال المديني، هي هيمنةٌ مؤقَّتة. فهو يُصبح بعد حينٍ، نوعاً من الفضول نكتشفه عند منعطف، أو في نظرة خاطفة ملويَّة ومواربة. وفي المدن حيث تكثر الأبراج مثل هونغ كونغ، ومانهاتن، وسيدني... من الضروري، أن يتميَّز البرجُ في رسمه الهندسي، وفي شكله، وفي التفاصيل التي تصنع غلافه، حتى نستطيع أن نميِّزه فنراه عن بعد، أو أن نراه بتقطعٍ وبشكلٍ متناوبٍ ونحن نتجوَّل في المدينة، عبر الفجوات التي تفصلُ بين الأبراج المتزاحمة.
تَتمعدنُ مدنُ اليوم، حيثُ تكثرُ الأبراج، وقد ذكرتُ بعضَها. تتمعدَنُ بهيكلِها الإنشائيِّ من الحديد الصلب، وبغلافها الزجاجي الملوَّن المعتم. وقد رأى فرانك لويد رايت، مستبقاً المدَّ المعدني الراهن وهو الذي عاش بداياتِه في شيكاغو، رأى أنه من المناسب للإنسان الذي يسكن في مكانٍ محدّد، أن يشعر وكأنه يسكنُ الأراضي في كامل امتدادتها.
ففي مشروعه لمدينة «بروداكر» الذي صمَّمه في عام 1934، يرى رايت أن كل مبنى هو نقطةٌ في شبكةٍ يوجِّهها لمصلحة اكتشاف القارة الأميركية بكاملها، وهو يرى فيه مشهداً ما قبل المدينة. فالبرجُ المنعزل، هو نقدٌ غيرُ مباشر لكثافة تمركز ناطحات السحاب، في أحياء المال والأعمال في المدن الأميركية الكبرى. وبرجُ الإلينوي الذي كان قد رسمه بدايةً لمدينة شيكاغو، صمَّمه رايت في النهاية، بارتفاع يصل إلى 1609 أمتار، متجنباً بذلك أي زيادة مرتجلة قد تضاف إليه. إن هذا البرج، هو التعبيرُ الفريدُ عن هذا الحلم الذي اختصره ريم كولهاس بقوله بما يشبه الصراخ: «الكثافةُ في العزلة، إنها الحل المثالي».
ففي الوضع الاقتصاديِّ والثقافيِّ العالميِّ المُعاصر، والذي يدفعُ الناسَ بقسوةٍ إلى التكدُّس في المدن، المدن الغنية والمدن الفقيرة على السواء، نرى السجال يحتدمُ، بين المدينة كمنتجٍ «ممعدنٍ» وبين المجالات المدينية النباتية الخضراء.
ويأخذُ هذا السجالُ بعداً كونياً. وكان لوكوربوزييه قد أشار إلى هذا الموضوع، في مخطوطته عن نيويورك، وعنوانها «عندما كانت الكاتدرائيات بيضاء». وتنطلق المسألة عنده، من مشاعر تتأجّج عبر المواجهة بين الاصطناعي العظيم كما يراه، والطبيعي المُستعاد، وفي هذا ما يحدِّدُ الأهدافَ التي على العمارة أن تحقّقها:
«300 متر من الارتفاع، هو حدثٌ معماريٌّ» يقول لوكوربوزييه. «إن هذا الارتفاع يمثِّل شيئاً هاماً في نظامِك البسيكوفيزيولوجي كإنسان، تشعر به في الرقبة وفي المعدة»، يتابع لوكوربوزييه: «إنه شيءٌ جميلٌ بذاته».
وكان لوكوربوزييه يؤمِن بالتنظيم المدينيِّ الذي يدافع عنه، كما يؤمن بالقوَّة السياسيَّة المنظِّمة، لعمارة يتصورُها على امتداد الأراضي، مرفوعة على أعمدة منتظمة، قادرة أن تعطي للطبيعة معنىً حقيقياً في المدينة.
وماذا عن المدينة ذات الأبعاد الثلاثة؟ ماذا عن التنظيم المديني الثلاثي الأبعاد؟
أصبح من الممكن تقنيّاً مع المباني المبالغة بارتفاعها، والمنتشِرة بكثافة من هونغ كونغ، إلى كوالا لامبور، إلى نيويورك وسيدني، إلى قطر والدوحة وأبو ظبي، أصبح من الممكن، مع انتشار المباني التي تنطح السحاب فعلاً لا تشبيهاً أو استعارةً، أصبح من الممكن تقنياً، اعتبار ناطحة السحاب مدينةً بذاتها. إذ أن تكديس الناس في طوابق، بعضها فوق بعض، قد سمح عند احتساب الاستعمال بأن نرى مساحة الأرض التي تقومُ عليها ناطحةُ السحاب قد تضاعفت مراتٍ ومرات، وبأرقام تزدادُ يوماً بعد يوم. فيزدادُ عدد سكّانها، وهم يقومون بنشاطات متنوِّعة ومتكاملة، مما يعطي لناطحةِ سحابٍ فعليَّةٍ منفردةٍ، شكلَ مؤسَّسةٍ مدينيَّة متكاملة.
إن البناء المُبالغَ بارتفاعه، ولَّد عند البعض الوعدَ بتنظيم مديني حقيقيٍّ ثلاثيِّ الأبعاد، مكدِّساً من الأرض حتى السماء الربط بين المباني، والأرصفة، والممرات المرفوعة، وجسور النقل الهوائية، كما جاء في «كوسموبوليتية المستقبل» وقد تصوّرها موزيس كنغ في عام 1908 ونقلها عنه ريم كولهاس في كتابه «هذيان نيويورك» الصادر بالفرنسية في عام 2002.
لقد جسّد المعمار الروسي إيفان ليونيدوف هذا الجهد المفهومي للصلة بين أبراج عديدة، في مشروعه لبناء مجمع وزارة الصناعة الثقيلة في موسكو، في عام 1934، كما سبق وذكرت. اقترح ليونيدوف في مشروعه، مجموعةً من ثلاثة أبراجٍ، بأشكالٍ هندسيةٍ مختلفة، ينزاحُ واحدها عن الآخر بلطفٍ، بما يضمن رؤيةَ كلِّ واحد منها، من مختلف الأماكن المحيطة بها.
أعاد ليونيدوف ابتكار الساحة الحمراء، فأقام فيها منصّةً ممتدَّة ربطت الأبراج بعضها ببعض وشدَّتها إلى أرضِ الساحة، ورسم في المنصَّة مُدَرَّجاً للاحتفالات الرسمية، وخلق رابطاً بصرياً بين مجمع الوزارة وكنيسة القديس باسيليوس بقببها الشاعريَّةِ الملوَّنة. ولحَظ في التأليف، ممرَّاتٍ علويةً على ارتفاعاتٍ مختلفة تربط أبراج المجمع، وتكسر عزلتها وتفرّدها الوقحين.
إنّ برج إيفِل، وكثرٌ هم الذين يعرفونه، هو بالتأكيد من أفضل الأمثلة عن المنشآت العمودية التي أُنجِزَت حتى الآن. فالمصعد فيه، يتبعُ انحناءة الهيكل الإنشائي قبل القِمَّة، ويُصبح عمودياً بشكل تدريجي، مما يجعلُ الزائر يعيش نوعاً من الارتباط الخاص بينه وبين البنيان المعدني، تنشِّطه الحركة ويوسِّعه الفراغُ المحيط. فالشبكةُ المعدنيَّةُ التي تتقارب مكوِّناتها مع صعود الزائر، تثير لديه المشاعر بخفة الكائن، وبتحرُّره المطلق من الأرض، وبحريَّةٍ تولِّد لديه راحةً، وإن متوهَّمة. يُمجِّد برج إيفِل عبورَ الفراغ الذي يولِّده اكتشافُ باريس من فوق من الأعلى، هذا الاكتشاف الذي يجعلُ المشاعرَ أكثرَ صفاءً.
البرج بكليَّته، هو بنيانٌ عند أوغست بيريه. وكل مكوِّن فيه، هيكلٌ حاملٌ أو جدار فاصلٌ، يُظهر ذاتَه بدونِ أي تبرُّجٍ أو زُخرفٍ، كما في برج غرونوبل. ومجالُ البرج الداخلي المفرَّغ، هو المكوِّن النشط الذي يغمُر الإنسان الصاعد داخله، في حمّام من الضوء.
العمارةُ عند أوغست بيريه هي فنُّ التوسُّط بين قيمٍ متعدِّدة. وهي تعبيرٌ عن كل ما هو إيجابي في فعل البنيان، في أبعاده الثلاثة: التقنية (المتانة) والفلسفية (الانتفاع أو الاستفادة) والروحية (الجمال)، بالعودة دائماً إلى فيتروفيوس.
في الخلاصة، إنّ بنيان الأبراج يرتكزُ على تفتيش متناقض: المزيد من المجالات مكدّسة بعضُها فوق بعض، مع القليل القليل من المواد. يأخذُ الحجمُ هنا مكان الكتلة، وتتغلَّبُ الخِفَّةُ والليونةُ، على الثقلِ وعلى الوزن.
وتعدُّد البرامج في الحالات المثلى، يولِّد تنوعاً في الأحجام التي تترابط غالباً في مجالٍ شاهقٍ فارغ.
و«ما بعد الحداثة»، هو الطراز المفضّل وفق ما يراه ريم كولهاس. إنه المروِّج المتحمِّس «للحداثة» يقول كولهاس، فهو في متناول الجميع. ناطحةٌ للسحاب مستوحاةٌ من باغودٍ صينية، أو من قريةٍ توسكانية، أو من الاثنتين معاً.
يطرحُ البرجُ مسألة الطراز في أسوأ معاني المفردة. ففي الوقت الذي تتعولم فيه تيبولوجية المباني البرجيَّة، تتفرّد مورفولوجياتها، وتتميَّز بكونها ملجأً للهوية، كما يراها كولهاس.
يدافع الطراز عن القواعد اللغوية الوطنية في العمارة، في ماليزيا أو في تايوان. كلُّ الهواجس يُعبَّر عنها في المحيط وفي اللِّباس الخارجي للمبنى، فيما يصبح المجالُ مبتذلاً حتى الضجر، كما يقرأه كولهاس مرةً أخرى.
يعود الطراز أحياناً إلى استلهام الكتلة المعمارية في عصر ما. إنه انتصارٌ للتاريخ بدلالاتٍ دون مضمون.
يكون الطراز أحياناً من ابتكار معمارٍ معيَّن، يحكي لغةً شخصيَّةً عليها أن تختلف عن لغة الجار، بمميِّزاتها الخاصة.
كيف وصلنا إلى مثل هذه المرحلة حيث نرى تقنية البنيان طرازاً؟ لأنه لم يعد للطراز بالتأكيد أية علاقة بالبنيان، كما يرى البعض.
وعندما يكونُ البنيانُ، أي التشييد، الممرّ الإلزامي لكل إنجازٍ في المجال، يُصبح البُنْيانُ بالتالي المعرفَة التي تسمحُ بتقويم المصنَّع المشيَّد، عند تقاطع العمارة، والفن، والتقنية.
إذا كان تكديسُ الطوابقِ وتكديسُ المساحاتِ المبنيَّةِ، بعضُها فوق بعض، هو السبب الحقيقي لدفع المباني باتجاه الارتفاع، وإذا كانت المبرِّرات الماليَّة هي الرافعة الرئيسة لهذا التوجّه نحو الأعلى، فإن كل ذلك لا يُنتجُ أية قيمةٍ مجاليَّةٍ للأبراج. أو بصيغة أخرى أكثر دقَّة، إن كل ذلك، لا يعطي الأبراج أَيَّةَ قيمةٍ وسط النسيج المديني حيث تقوم.
إن رؤية المجال الفسيح الممتد بلا حدود، والإحساس الوجودي الفيزيائي لواحدنا وهو عند قمَّة بناءٍ، بأنه يحلِّق وكأنه على قمة جبل، إن هذين الرؤية والإحساس، خارجَ أي كسبٍ عقاريٍّ وماليٍّ، ربما استطعنا اعتبارهما المسبِّبين الرئيسين لوجود المباني التي تقتحم القمم.
يبدو السببان المذكوران إلزاميين، بالمقدار ذاته الذي يبدو معه ناتجُ الارتفاع نسبيّ النجاح، وبعيداً عن أيةِ قراءةٍ مباشرة، لا مُواربة فيها ولا التواء. وخاصةً أن أيَّ ارتفاعٍٍ نصلُ إليه اليوم، سوف نتخطَّاه غداً، لأسبابٍ ماليةٍ أكثر من أيَّة أسباب أخرى.
من هذه الزاوية، نشاهد صعوداً قوياً لتيارات تحوِّل قراءةَ البرجِ من علامة قوةٍ، وانتصارٍ، وتحدٍّ للسماء، إلى قراءةٍ مليئة بالقلقِِ والتساؤل.
وبُرج ريم كولهاس، الذي صمَّمه للتلفزيون المركزي الصيني (CCTV) في العاصمة بكين، حيث يلتفُّ حجم البرج أفقياً، أملسَ، متواضعاً، موازياً للأرض التي يقوم عليها، معيداً ارتباطه بها وإن عن بعد، إن برج ريم كولهاس هذا، يختصر ببلاغةٍ بداية التحول الذي أشرنا إليه.
إنها صورةٌ مُقلقةٌ «لبرجِ المستقبل»، تُدمِّر صورته المتفائلة، المنتصرة، المتعالية، العدائية، القامعة، وتستبدلُها بصورةٍ فيها الشكُّ مكان اليقين، والتردُّدُ مكان الثقة والتأكيد.
ومن الضروريِّ في كلِّ الصيغ، التأكيدُ في الخاتمة، أن التعبير التقني يبقى الأساس، في الصياغة المفهومية لعمارة الأبراج. وكلّما تألَّقتِ التقنيةُ في الأبراجِ مفهوماً وتنفيذاً، كلّما ازدادت الأبراجُ فقراً في أدائها المجالي، وانعزالاً في موقعها المديني. العمارة البرجيّة في تحوّلها المجالي، لا تزال في البدايات. قراءتُها ملويَّة موروبة، وتوصيفُها غير مكتمل.
* مهندس معمار واستاذ جامعي
المراجع:
ــ John Dos Passos (Manhattan Transfer)
ـــGallimard – Folio Paris 1973
ــ Paul Auster (Trilogie new yorkaise)
Cité de verre. Acte Sud Montpellier 2002
ــ Le Corbusier : Quand les Cathedrales etaient blanches Artemis Zurich 1972.
ــ New york Delire Rem Koolhas Parenthéses Marseille 2002.
ــ Andrei Gozak et Andrei Leonidov Ivan
Leonidov‚ Academy editions Londres 1988
ــ Auguste Eiffel: L’art de l’Ingénieur‚
Constructeur‚ Eutrepreneur Inventeur
Centre Georges Pompidou (Antoine Picon). Paris 1997
ــ Auguste Perret‚ L’Architecture D’Aujourd’hui Paris 1991
ــ Techniques et Architectures No. 350‚ Novembre 1983
ــ Techniques et Architectures No. 471‚ Avril – Mai 2004