نوال العلي
انقطعت الكهرباء حين كان الزوج يهمّ بمغادرة الشقّة الكائنة في إحدى بنايات شارع الحمراء القديمة. كانت عزّة تتحدث بسرعة كأنها تلاحق الأفكار في رأسها. أوقفتُ آلة التسجيل، وقالت بانزعاج: «أوف سيهبط أحمد الدرج من دون مصعد». عذراً من زوج السيدة عزّة شرارة بيضون، أظنّه لن ينزعج من هذا اللقب. كثيرون يقدّمونها على أنّها زوجة الباحث والمفكّر أحمد بيضون وهي لا تتذمّر... وإن كانت من أكثر النساء اللواتي قابلتهن حدّةً، فهذا السياق الاجتماعي السائد لم يؤثر على الثنائي الذي سيمضي على قرانه أربعون عاماً. بل يبدو أنّ الذهنيّة نفسها لم يفلت منها في السبعينيات أحد الأحزاب اليسارية العربيّة الأكثر تشبثاً بالأفكار النسوية. فقد حدث أن فُصلت عزّة من «منظمة العمل الشيوعي»، عام 1973، لأنّها زوجة أحمد بيضون وشقيقة وضّاح شرارة اللذين كانا على خلاف مع المكتب السياسي. ويومذاك تساءل بعض الرفاق من باب التندّر: تُرى إذا اختلف الأخ والزوج، على من ستُحسب عزّة؟
تلك المرأة لن تحسب على أحد سوى نفسها. يكفي من الحياة أن تسير بهذا الاتجاه أو ذاك، لتظهر عندها كلّ مرّة تلك الروح النسوية التي تنشب أظافرها في كل شيء. أستاذة علم النفس في الجامعة اللبنانية وفي الجامعة الأميركية اللبنانية، هي عضو مؤسّس في «تجمع الباحثات اللبنانيات»، و«لجنة التوثيق والبحوث» و«الهيئة الوطنية لشؤون المرأة اللبنانية». كما أنها مستشارة في شؤون «الجندر» أو النوع الاجتماعي، لدى منظمات محلية ودولية. لكنّ الدكتورة بيضون ليست من النوع الذي يتبجّح بالجهد الذي بذلته طيلة هذه السنوات. تعتقد أن كل ما حقّقته ليس إلا حظاً سعيداً حالفها منذ الطفولة. إنّها ليست مناضلة، بل امرأة بظروف هيّأتها لتعيش الحياة التي تريد. هكذا ترى المرأة نفسها، وتسأل: مقابلة معي؟ لماذا أستحقّ اهتمامكم؟
ولدت عزّة في صيدا لأمّ من عائلة عسيران الأرستقراطية، وأب من عائلة شرارة البورجوازية المثقفة، كان شاعراً معروفاً ومن أهم أدباء جبل عامل (عبد اللطيف شرارة). التقى الاثنان بعدما أسست الأم أوّل مدرسة للفتيات في بنت جبيل عام 1932، فوقع الشاعر في غرامها. لكن زواجهما لم يكتب له النجاح. بعد أربعة أعوام، اتّخذت المرأة قرار الطلاق في مجتمع شيعي محافظ، ثم غادرت إلى صيدا حيث خاضت تجربة زواج آخر، مصطحبة عزّة معها وتاركة وضّاح للأب. لم تترك تلك الطفولة رضوضاً نفسية عند عزّة، كانت تعيش وتتنفّس في غياب سلطة الأب، وربما يكون ذلك سبباً في الحرية الداخلية التي تميّزها. بل إنّ قوّة إيجابية في داخلها، وطاقةً على حبّ الحياة تجهل من أين استمدتها، جعلتاها تشعر بأنّها طفلة سعيدة ومرغوبة جداً. ولو لم يكن الأمر كذلك، فلماذا يخطفها والدها من المدرسة من حين إلى آخر؟
ما يميّز طفولة عزّة شرارة حقاً، ذلك التنوّع الديني والثقافي والحضاري الذي عاشته، طريقة حياةٍ عزّزت غياب أحادية التفكير، لتنعكس لاحقاً على البحث: بين صيدا حيث حياة التقاليد الأرستقراطية الصارمة والرتابة المدروسة، وبنت جبيل التي كانت مكاناً لتجريب الانفلات والحرية: تخرج صباحاً، تحترف الطفولة، ثم تعود وقد حلّ الليل وأنهكها العبث، فتنام منكفئة في المنزل الريفي. هناك تعرّفت إلى بدائية العيش: ثمة بئر كأنها رأت انعكاساً نقيضاً للعوالم المدينية فيه، أمّا الحقول فمختبر المغامرات. ترى بيضون في كل هذه التفاصيل تحوّلاً جذرياً في تعاطيها لتنوع الحياة، شعورٌ لمسته مذ وطئت قدماها بنت جبيل عام 1950 حتى دخولها الجامعة الأميركية عام 1963.
كانت الجامعة الأميركية أوقفت مجلس الطلبة منذ أوائل الستينيات حتى 1967... خطوة جمّدت النشاط السياسي، وانعكست على طلبة كثيرين منهم عزّة، فوجدت نفسها مندفعة عاطفياً إلى الفكر القومي والناصرية من دون خلفية سياسية محكمة ومؤدلجة. ومثل أبناء جيلها، كان لا بد من أن تسيّس تلك النكسة الفجائعية كل شيء، وهكذا كان.
التحقت بحركة «فتح»، حيث كانت مهمّتها جمع التبرعات وإعطاء المحاضرات. لكن الإقامة لم تطل في ربوع ذلك التنظيم
الذي اصطدمت بتناقضاته. فسرعان ما انتقلت إلى منظمة يساريّة طليعيّة آنذاك، هي «لبنان الاشتراكي». أخوها وضّاح هو الذي استقطبها إلى تلك الحركة السياسية الماركسيّة المؤسسة سنة 1965، التي اندمجت لاحقاً مع «منظمة الاشتراكيين اللبنانيين» لتكوّن «منظمة العمل الشيوعي» في لبنان.
الانضمام إلى المنظمة أصبح نمط حياة، لذلك كانت حادثة طردها التي ذكرناها محبطةً وجارحةً، هي التي كرّست جلّ وقتها للعمل وأسّست أول لجنة نسائية فيها، حتى أن أصدقاءها اقتصروا على الرفاق، وكانت تخصص جزءاً من مدخولها لأنشطة المنظمة. لم يكن سهلاً أن تستوعب المرأة مسألة فصلها، وأن يقاطعها رفاق الأمس، بسبب زوج يحدث جلبة في المكتب السياسي.
منذ خروجها من المنظمة، اتجهت بيضون للعمل النسوي مع الاتحاد النسائي الفلسطيني، حتى اندلعت الحرب الأهلية، ولفّت دوّامة العنف الفصائل الفلسطينية، فانسحبت مرة أخرى، وانكمشت سياسياً طيلة سنوات الحرب. وحين بلغت الخامسة والثلاثين، قررت أستاذة الرياضيات أن تُهدي نفسها هدية: وداعاً للرياضيات، مرحباً بعلم النفس. هكذا، ستلتحق الأم لبنتين توأم في عزّ سنوات الحرب بالجامعة اللبنانية للتخصّص في شغفها الأصيل، وستظل في دائرة الدراسة 17 عاماً قبل أن تحصل على الدكتوراه عن أطروحتها الميدانية عن «صحة النساء النفسيّة بين أهل العلم وأهل الدين» (1996)، وقد صدرت بعدها بعامين في كتاب عن «دار الجديد».
المعرفة هي طوق النجاة الذي ساعدها على تحمّل تجربة الأمومة التي اجتاحت كل شيء، هذا الحب اللامشروط الذي يقابَل بضيق الفتاتين، مثلما كان البحث سنداً لها في مرحلة سنّ اليأس، وفي تحمّل سنوات الحرب، إذ رفضت ترك لبنان وراحت تتنقّل بين الشقق المفروشة وبيوت الأصدقاء. تلك السنوات الدموية نبّهت عزّة إلى أنها «خبيثة» تدعو إلى العنف إذا كانت خارج دائرته فقط. خشيتها على ابنتيها ربّما، جعلت مواقفها تنقلب رأساً على عقب. وغدت امرأة تنتمي إلى التيار اللاعنفي، وتؤيد السلام في المنطقة. فهي إن قالت غير ذلك، تلزم نفسها بحمل السلاح والانخراط في العنف، وإلا فالمسألة كلها محض ادعاء سياسي وتبجّح وطني.
مذ ظهرت لها هذه الحقيقة، انغمست عزّة في الدراسة والبحث. جعلت من قضايا العنف ضد المرأة، وعلى رأسها جرائم الشرف في المجتمع اللبناني، شغلاً بحثياً ميدانياً سيؤسس لكثير من محاولات التغيير والتطوير من زاوية المنظور الجندري. أخذت كتبها تصدر، وبحوثها تثير الجدل، وانهمكت تنبش في الواقع الحيّ لهذا المجتمع المركَّب. والآن، في هذا العام تتقاعد أستاذة الإنسانيات التي تدرّس، منذ ربيع 1997، في الجامعة الأميركية اللبنانية. ولا تخشى من الإفصاح عن هواجسها: «أخاف أن يحدث لي ما حدث لوالدتي التي قاطعت العالم حين تقاعدت».
هل حان وقت الوحدة؟ تفكّر هذه المرأة التي تشتغل على روحها كأنّها تعدّ منمنمة فسيفسائية. هكذا هو عقل الباحث، يَخشى الوحدة فيعيشها طيلة الوقت. يورِّط نفسه في ضجيج المجتمع كي لا تتمكّن منه العزلة، فإذا بعزلته حاضرة أبداً في الأفق. على مقربة منه يتنفّس مستقبل من نوع خاص، قادم من الداخل.


5 تواريخ

1944
الولادة في صيدا
1967
الانضمام إلى «لبنان الاشتراكي» الذي صبّ عام 1970 في «منظمة العمل الشيوعي»
1996
دكتوراه في علم النفس من الجامعة اللبنانية عن أطروحتها: «صحة النساء النفسية بين أهل العلم وأهل الدين: دراسة ميدانية في بيروت الكبرى» (دار الجديد)
2007
جائزة «منظمة المرأة العربية» لبحثها الميداني «الرجولة وتغيّر أحوال النساء» (المركز الثقافي العربي)
2008
صدور «جرائم قتل النساء أمام القضاء اللبناني»، عن «منظمة كفى عنفاً واستغلالاً» في بيروت