جوزف ريشاليس غريباً على اللبنانيين الاهتمام بموتاهم وتقديم كل الاحترام والتقدير لهم، إنما الغريب في الموضوع هو استخدام الموتى كوسيلة لغايات بعيدة كل البعد عن الاحترام لدى شريحة من اللبنانيين. فقد دُهشت أخيراً عندما شاهدت الحملة التسويقية الجديدة لحزب القوات اللبنانية والمتمثلة بصور عملاقة على اللوحات الإعلانية، منها صور لسيدة حاريصا وليسوع الملك لم نفهم إقحامهما داخل الخط الأحمر المغلق حول الأرزة اللبنانية، بالإضافة إلى صور لشخصيات لبنانية راحلة كالشيخ بيار الجميل وشارل مالك والشيخ بشير الجميل والرئيس كميل شمعون وغيرهم، مع عبارات تؤكد أن الراحلين أصحاب الصور قد رسموا الدرب الذي تسلكه القوات... أي تفليسة هي استحضار الموتى والشهداء لإعادة إحياء أحزاب وتيارات معينة؟ أين العقائد والسياسات والمبادئ والاستراتيجيات؟
أين احترام الفكر والذاكرة لدى اللبنانيين؟ كيف يمكن لهؤلاء أو حتى كيف يأذنون لأنفسهم استحضار شارل مالك كرمز لهم وهو مَن شارك في وضع شرعة حقوق الإنسان العالمية التي نُحرت في إهدن، وعلى جدران بلدات لبنانية كعمشيت وضبيه وجسر المدفون وعلى ضفاف نهر الشهادة. كيف أذنوا لأنفسهم استجلاب صورة الراحل بيار الجميل مؤسس حزب الكتائب اللبنانية، وهو مَن ناضل من أجل استقلال وطنه وسيادة قراره بمعزل عن تدخل السفارات والوزيرات الوقحات، ولم يفرّط بحقوق طائفته في اتفاقات شبيهة بوثيقة الطائف؟ أين هم من بشير الجميل الذي عند انتخابه رئيساً للجمهورية أعلن أنه ينوي ضم قواته إلى الجيش اللبناني لتعزيزه لا لضربه وطعنه، كما طالب بلبنان الـ10452 كلم مربعاً فلم يرضَ بإقطاعية كفرشيما ـــ المدفون.
أما الرئيس كميل شمعون فحدّث ولا حرج، فالرئيس الراحل مثّل حالة لبنانية وطنية جامعة، فكان في كتلته النيابية كما ضمن أنصاره لبنانيون من كل الطوائف المسيحية والإسلامية. أما مَن يرون أنفسهم اليوم على خطاه فمن الصعوبة أن تجد في صفوفهم مسيحيين حتى من الدرجة الثانية (كما سُمّي غير الموارنة إبّان انتخابات المتن الشمالي الفرعية من جانب ثوار الأرز) وقد تحتاج لمجهر للبحث عن لبناني مسلم منقرض في صفوفهم، وخاصة عن شيعي أسقطت عنه لبنانيته وأُلبس العباءة الفارسية.
كفى... لقد سئمنا استغلال الموتى والشهداء لشحذ بعض المناصرين والمصفقين. كفى لعباً ورقصاً على القبور. أين أنتم من الشهيد اللواء فرانسوا الحاج الذي قاتل الميليشيات المعتدية على المؤسسة العسكرية وانتصر على الإرهابيين في نهر البارد، مروراً بمقاومة المحتلين على أنواعهم، أين أنتم من فكر الشهيد سمير قصير وجورج حاوي، أين أنتم من وطنية جبران التويني الذي أسّس حركة دعم التحرير وحاصر السفارة الأميركية في عوكر عام 1989 لدعمها الاحتلال ولرفضها سيادة لبنان واستقلاله وحريته، كما جابه النظام الممثل لسلطة الوصاية والانتخابات النيابية في ظله والحكومات المنبثقة عنه، التي شارك فيها كل مَن يدّعي الانتماء إلى ثورة الأرز والخط «النيو سيادي».
قد يكون البعض قد نسي أو تناسى مآثر هؤلاء، إلا أن معظم اللبنانيين لا يزالون يذكرون الحكومات المتعاقبة منذ عام 1990 ولتاريخه، من المشاركة القواتية والكتائبية في أولى حكومات الاحتلال السوري بعد الطائف، كما هي حال معظم تشكيلة قرنة شهوان.
ولم ينسَ اللبنانيون مفاتيح بيروت المقدمة لغازي كنعان الذي بكاه ورثاه صقور 14 آذار، وهرول خلف قانونه الانتخابي الجائر مغتصبو إرادة أحفاد يوسف بك كرم في زغرتا كما في الكورة والبترون وبعبدا وعاليه، حيث ركب مسيحيو الحريري قطاره الأزرق ذا المحرك السعودي وطاقم القيادة الوهابي والسلفي، والذي شق طريقه على سكة إرادة المسيحيين دون أن يرف لهؤلاء الثوار جفن، ودون أن يرتعد لهم وجدان أو أن تخدشهم كرامة.
فيا أيها الثورجيون، كفى استخفافاً بالعقول وإسفافاً للذاكرة، واتركوا التماثيل الدينية، فهيكل المسيح ليس للتجارة وليس مرتعاً للفريسيين، واتركوا الشهداء والأموات في قبورهم ولا تقتلوهم مرة ثانية، فدماؤهم أكثر نقاءً من البهلوانيات والخزعبلات الإعلامية والإعلانية الرديئة التقديم والسيناريو والإخراج.