الاكتئاب مرض العصر، ولكنه أيضاً مرض اللبنانيين الذين يهربون إلى الإنكار خوفاً من مواجهة عوالمهم الداخلية، هذا المرض النفسي قد تكون له جذور جينية. يمكن تلخيص المشكلة في لبنان بالتناول العشوائي لمضادات الاكتئاب، بدل الخضوع للعلاج النفسي، ما جعل اللبنانيين أهم مستهلك لها في العالم

خضر سلامة
الاكتئاب مرض نفسي، لكن البحوث العلمية أثبتت أن ثمة دوراً عضوياً في التسبب به، وبيّنت دراسات بريطانية نشرتها أخيراً المجلات العلمية، أنه قد يكون للاكتئاب جذور جينية، كما يرتبط بخلل في إفرازات مادتي النيرادرينالين والسيروتونين التي يلاحظ نقص حاد فيها يترافق عادةً مع الإصابة بالاكتئاب النفسي. لعل أبرز مشكلات مواجهة الاكتئاب هو التأخر في تعرف المريض إلى حقيقة علته، ما يطيل من فترة العلاج بعد تجذر الأسباب المرضية وتفاقم العوارض، سواء الجسدية أو النفسية للقصور النفسي، فعلى سبيل المثال، وفي استطلاع لصحيفة لو موند الفرنسية، 39% من المصابين بعوارض الاكتئاب بدأوا بمراجعة طبية، والآخرون غير مقتنعين بضرورة العلاج أو مترددون «خجلاً» من تشخيص نفسي، أو عاجزون عن تسديد كلفة العلاج الصحية، وثمة من لم يكتشف حتى الآن حقيقة مرضه.
ومن المشكلات الأخرى للاكتئاب، أن عوارضه تتوزع بين نفسية وفكرية وصحية وغذائية، ما يحيل المريض إلى مراجعة غير متخصصة ومتفرعة الجوانب، فمثلاً حسب إحصاءات معهد الدراسات الوطني الفرنسي، 21% من المكتئبين في فرنسا راجعوا طبيب الأسرة، 13% راجعوا طبيباً نفسياً، 7% راجعوا طبيب أعصاب، و5 بالمئة قاموا بزيارة طبيب تغذية. 80% إلى 90% من المكتئبين الذين تلقوا علاجاً تماثلوا للشفاء، أما العلاج فيختلف بين حالة وأخرى، وإن كان 59% من المكتئبين المستطلعين لجأوا إلى مضادات الاكتئاب، فيما خضع 28% لجلسات العلاج النفسي.

لبنان «المكتئب»؟

«منيح اللي بعد في ناس بلبنان صامدين أمام الاكتئاب» بهذه الجملة تبدأ المعالجة النفسانية الدكتورة إيلان عيسى حديثها، وهي د. في جامعة البلمند، وعضو في نقابة المعالجين والمحللين النفسانيين، فمنذ بداية الخضات السياسية، وصولاً إلى حرب تموز والأزمات الداخلية اللاحقة، غاب حسب عيسى أي محفز للتفكير الإيجابي، في ظل غياب الاستقرار الأمني، والسياسي والاقتصادي، وتالياً الاجتماعي والأسري.
«لا بد أن نشير إلى أن لبنان يعدّ من أكثر الدول في العالم استهلاكاً لمضادات الاكتئاب، ونلفت إلى مشكلة مهمة وهي غياب إحصاءات رسمية عن نسب الاكتئاب، بسبب اتجاه العديد من المرضى إلى شراء الأدوية دون العودة إلى الاختصاصيين»، وهنا تشير محدثتنا إلى قانون وضع قبل ثلاث سنوات يحظّر بيع الأدوية المضادة للاكتئاب دون توصية المختص، وتضيف أن الأدوية المضادة للاكتئاب قد تخفي العوارض الظاهرة، لكنها لا تقوى على معالجة السبب النفسي الكامن وراء المرض، وهنا دور العلاج النفسي.
تتوقف عيسى عند خطر الانتقال من مرض «الاكتئاب» الى آفةٍ أخطر كالإدمان، وتقول إن توجه المريض إلى شراء الأدوية دون الرجوع إلى مختص، أمر يعود إلى أسباب عديدة في لبنان، أهمها الهم الاقتصادي وقصور معين في الوعي، ونظرة المجتمع.
تشرح عيسى أن «الاكتئاب درجات، بعضها خفيف ومؤقت وبعضها مزمن يستمر أشهراً وسنوات، ومعها تختلف وسائل العلاج المقنن أصلاً حسب بنية الشخصية الفردية، الأدوية هي علاج مرحلي تفيد في التوازن الكيميائي، أما العلاج النفسي فأساسي لإخراج الأسباب الكامنة وراء المرض من اللاوعي، ثم القضاء التام عليه».
ماذا عن الوعي في لبنان لحقيقة الاكتئاب ومخاطره؟ تجيب عيسى بأننا نشهد منذ عشر سنوات تصاعداً مطرداً في وعي ماهية المرض، وإن كانت النسب تبرز شرخاً بين فئات المجتمع اللبناني نفسه «الأشبه بموزاييك طبقي وسوسيولوجي، فئات متطورة ومتقدمة قادرة على الاطلاع العلمي، وفئات منعزلة ومهمشة»، ولكنها تشدد «ينبغي أن لا نبالغ في التقييم الإيجابي للوضع في لبنان، فثمة مشكلات كثيرة ما زالت تعيق مكافحة الاكتئاب المتكاثر بفعل البيئة العامة للحالة الآن، وفي لبنان، أهم ما يعيق العودة إلى المختصين للعلاج هو حالة النكران للمرض، وهي وسيلة دفاعية يستخدمها الإنسان لينكر وجود المشكلة ويخفف القلق والإحباط، وهو ما قد يسبب حالات متقدمة لاحقاً من الإصابة».
وهنا نلفت إلى أن نقابة الصيادلة تشير إلى أن لبنان شهد عام 2007 استيراد 1.081.836 مهدئاً للقلق، مقابل 868.145.00 عام 2005، كما استورد 574.647.00 من مضادات الاكتئاب، مقابل 488.697.00 عام 2005.

إلى متى؟

الكرة الأرضية هي بؤرة عنف وتوتر يومي، وفي ظل الضغوط الاقتصادية والاجتماعية المحيطة بنا، فإن كل فرد معرّض للاكتئاب، وهذا ما يسبّب مخاطر صحية وإنتاجية ما زلنا نقصر محلياً عن تصور حجمها الحقيقي... ولكن يكفي أن نشير إلى إحصائية نشرتها المكتبة العامة للحقوق PLOS تشير إلى أن 25.8% من اللبنانيين أصيبوا باضطراب نفسي واحد على الأقل في حياتهم...


وقفة

مرض العصر الحديث

شعور عميق بالملل والضجر، إحباط مزمن، أرق ليلي متكرر، خلل في النظام الغذائي كفقدان الشهية أو الأكل بإفراط، عصبية دائمة يصاحبها تشاؤم وضعف في الذاكرة يحمل صاحبه إلى صعوبات في اتخاذ القرارات وتردد قوي، تعب جسدي، كل هذه قد تكون عوارض مترابطة لمرض الاكتئاب أو «مرض العصر الحديث». يحل هذا المرض، وفق إحصائيات منظمات صحة دولية، في المرتبة الثانية في قائمة المتسببين بفقدان قدرة العمل والإنتاج عند الأفراد، ويأتي بعد الأمراض التي تضرب القلب حسب الرابطة الكندية لشركات التأمين الصحي.
الاكتئاب مرض نفسي منتشر بشدة، وإن كان يخضع للتعتيم بفعل غياب التوعية اللازمة لكشف الإصابة به، فحسب التقديرات الصحية العالمية، فإن شخصاً واحداً بين كل ستة أشخاص يعاني لمرة واحدة على الأقل في حياته عوارض الاكتئاب النفسي. وقد حمل هذا المرض منذ ثمانينيات القرن الماضي لقب «مرض العصر الحديث» عن جدارة، بعد ارتفاع نسب المصابين به، فإن هذا اللقب غالباً ما يُبرر لشدة ارتباط الاكتئاب النفسي بملامح العصر، كالحروب والتدهور البيئي والفقر والعنف وغيره.
الاكتئاب مرض يهدد الجميع وإن بنسب مختلفة، وفي كل مراحل الحياة العمرية (وإن كان أكثر شيوعاً في مرحلة الشباب 25ـــ45 سنة لكثافة الضغوط)، كما أنه مرض لا يميز بين ثريّ أو فقير، فهو قد يصيب أي شخص من كل الطبقات الاجتماعية والفئات العرقية.
قد تختلف أسباب الإصابة بالاكتئاب بين مجتمع وآخر، فحسب الدكتور إيلين سيب، المحاضر في علم النفس في جامعة لويس باستور الفرنسية، «تعود أسباب الاكتئاب في الدول المتقدمة إلى الروتين اليومي والمادية الشديدة للمجتمعات، والفراغ العاطفي اجتماعياً وأسرياً الذي يعاني منه البعض، هذه الأسباب تمثّل عائقاً أمام النمو النفسي الطبيعي للفرد في مجتمعاتٍ صناعية وتكنولوجية تفقد النفس البشرية شيئاً فشيئاً كثيراً من أعرافها التقليدية اليومية»، أما في البلاد النامية فإن سيب تقول: «علينا أن نلاحظ ارتفاع النسب بشكل كبير في مناطق الصراعات، وفي مناطق الكوارث الطبيعية والمناطق القاصرة اقتصادياً وغذائياً، لنربط كل ذلك بعوارض الاكتئاب المحلية».
إمكان الإصابة بالاكتئاب يختلف بين الأفراد أنفسهم في الجماعة الواحدة، فحسب الـ«دريس» (إدارة أبحاث التقييم والإحصاء الأميركية)، يبلغ احتمال الإصابة عند النساء ضعفي احتمال إصابة الرجال به، وذلك يعود لأسباب تتعلق بارتفاع الضغوط الاجتماعية والبيولوجية على المرأة، وترتفع النسبة أيضاً عند العاطلين عن العمل، وعند الذين يعانون مشكلات عاطفية، وعند العازبين، وبيّنت النتائج أن ثمة دوراً عظيماً للعلاقات الأسرية والشخصية ودور المجتمع والبيئة في مواجهة الاكتئاب.
تنبغي الإشارة إلى ظاهرة أخرى تترافق مع مواجهة الاكتئاب، فبعض المرضى، ولو بنسب ضعيفة، يلجأ إلى وسائل دينية لمواجهة الحالات النفسية، كزيارة الكنائس والجوامع ورجال الدين والتعلق المؤقت بالماورائيات والذِّكر الديني، هذه الحالة يفسّرها الدكتور ويل شميك، بأنها نتاج البيئة المحيطة المطعّمة بالدين، التي تجعل الدين حاجة وملاذاً للراحة لأسباب تتعلق بالإعلام الاجتماعي المحيط أو بمؤثرات من الطفولة، ترسم القناعات الدينية على أنها راحةٌ نفسية للمتعبين، «وهي بكل الحالات لا تضرّ، وإن كانت مجرد مورفين مؤقت للأمراض النفسية التي يجب أن تسلّم إلى أيد متخصصة وعلمية».