كثيراً ما اشتهر اللبنانيون بمهاراتهم الاجتماعية التي يبالغون بها أحياناً إلى حدّ النفاق. فهم «ملوك العلاقات العامة» و«الأساتذة» في عمليات حفظ ماء الوجه». إلّا أن الفترة الأخيرة، التي تميّزت بالضغوط المعيشية والسياسية والأمنية، أثقلت صدورهم. فاستشرسوا حسب رأي الاختصاصيين في بحثهم عن الأمان المفقود بهدف حماية ذواتهم، لتكون النتيجة شوارع مشحونة بمواطنين عدوانيين تجاه بعضهم بعضاً
رنا حايك
«عالجناح»؟ كان ذلك أمام فندق «البريستول» في منطقة رأس بيروت. والمسافة بين المنطقتين قريبة. أقل من 10 دقائق في السرفيس. طبعاً تتفاوت المدة بحسب كثافة السير. لكنني أعرف طريقاً مختصراً اعتقدت أنني أخدم السائق حين أرشدته إليه. كان لطيفاً بداية المشوار. وكانت التعرفة قد تضاعفت منذ أيام فقط، فناولته ألفي ليرة وانطلقنا. لم يستغرق المشوار أكثر من 6 دقائق. لكن السائق سرعان ما انغمس في نوع من النق الذي أصبح «كلاسيكيّاً» في السرفيسات. هكذا، أصبحت من حيث لا أدري، وفي غضون دقائق، مسؤولة عن ارتفاع أسعار الوقود العالمية وعن زحمة السير الخانقة وعن الغبن والإهمال الذي يتعرّض له المواطنون في هذا البلد. «لو عارف هيك ما كنت جيت من هون. بدّك توصلي بسرعة وما بيهمّك شو بيصير فيي؟ كنت أخدت 100 راكب من فردان. يلعن أبو هالعيشة عأبو هالبلد..».
لم أردّ. غرقت في المقعد الخلفي وانكمشت على نفسي أكثر فأكثر وكأنني أخجل من ذنب هائل اقترفته. لكنني لم أتمالك نفسي: «ولو.. ما بدها هلقد».
استمر في الصراخ وكأنه كان ينتظر فرصة تشفي غليله من كل ما يثقل صدره من هموم. لم يكن هذا الرجل السائق الأول ولن يكون الأخير. فالعلاقة بين الراكب والزبون تنحرف في معظم الأحيان عن مسارها الطبيعي لتتحوّل إلى «سمّة بدن» قد تفسد نهارك بأكمله.
فقد أصبح جميع اللبنانيين بمثابة «قنابل موقوتة» قد تنفجر في أية لحظة في وجه أي كان. فالحدود المتعارف عليها بين الناس، كالتهذيب الذي يلجم تقلبات المزاج عندما نتعامل مع الآخر، لم تعد كافية تحت وطأة الضغوط المعيشية والأمنية التي يتعرضون لها.
في الشارع، مثلاً، لا يكاد يتحول ضوء إشارة السير إلى الأخضر حتى تتعالى الأبواق احتجاجاً على تلكؤ سائق استغرقت «تقليعته» ثانيتين. في الـ«سوبر ماركت»، تتربّص النسوة بعضهن ببعض أمام الصندوق. ينظرن بعضهنّ إلى بعض شذراً مذراً تحسّباً من سرقة إحداهن لدور الأخرى. أما في ذلك الدكان الصغير في الحمرا، فقد حاولت جاهدة تذكّر مادة في القانون الجزائي اللبناني تعاقب البائع الذي «يتمنّع عن البيع». في ذلك المساء، كان كل ما أبتغيه شراء علبة من السجائر التي أدخّنها وثمنها 2000 ليرة.
«صارت 2250» قال. اعترضت، فمدّ يده وسحب العلبة من يدي: «خلص ما بدي بيع». لم أتمالك نفسي. فبأي حق يصبح النّصب علنياً ومباحاً ويحاجج مرتكبه بهذه الصفاقة وبمنطق الاستقواء؟.
اتضح أنه يقوم بذلك استناداً إلى «حقوق كثيرة» يرى أنها اغتُصبت منه، محمّلاً المسؤولية لأول من يصادفه: «كيف بدي أربح؟ هنّي غلّوا الدخان. والحياة كلها. كيف بدي عيش وأنا مش ضامن بكرا بهالبلد؟».
لم ينقذ «قانون الدكانجي المسلكي» المرتكز منطقياً على وجوب شراء ودّ الزبون بالترحيب، هذا الدكانجي من العدوانية التي أصبحت سمة من سمات اللبنانيين، بعدما كانت رحابة الصدر واللطافة الاجتماعية من سماتهم كشعب يتميز في محيطه العربي بأنه «ملك العلاقات العامة».
أصبح السائق اللبناني يضيق ذرعاً إذا ما توقّفت أمامه سيارة لتتيح لعجوز أو لامرأة تحمل طفلاً أن تقطع الطريق، ويسارع إلى الاعتراض، كما سبق أن فعل أحدهم، حين أنزل شباك سيارته وصرخ بالفتاة التي تقود السيارة أمامه «بعد فيه صرصور ما مرّقتيه!».
حلّت العدوانية محلّ الذّوق واللياقات الاجتماعية في سلوك اللبنانيين. الأسباب عديدة يعيد الطبيب النفسي عباس مكي أهمها إلى اختفاء إحساس اللبناني بالأمن من جميع جوانبه، العسكري والسياسي والاقتصادي ـــــ المعيشي. يشرح الطبيب أن العدوانية «جزء أساسي من مكوّنات الإنسان، طفلاً كان أو راشداً». وهي، إن بقيت في حدودها الطبيعية كقوة محركة للمبادرة «يستخدمها الإنسان للانطلاق في إشباع رغباته». ويضيف الطبيب «أما إذا أصابها خلل، فهي تتّخذ شكل نزاع مع الآخر يلجأ إليه الإنسان لأخذ ما يريده عنوة».
وأكثر ما يريده الإنسان، مدفوعاً بغريزة البقاء التي تحرك أفعاله، هو الأمن والشعور بالأمان. فإذا ما حرم هذا الشعور، يخاف ويستشرس كما يقول مكي، مردفاً: «عادةً ما يحدّ القانون، في أي مجتمع كان، من حركة الإنسان في البحث عن حاجاته. فهو يكبت العدوانية التي قد يلجأ إليها الإنسان في إطار بحثه هذا. أما حين تصبح هذه القوانين فوضوية واستنسابية، فيفرج الإنسان عن عدوانيته وتنفلّت هذه من عقالها».
يؤكد مكي ارتباط العدوانية بالأمن «العدوانية سلاح الإنسان في الدفاع عن أمنه. فإذا أحاطته الفوضى السياسية والأمنية وحرم الأمن الغذائي والمعيشي عموماً، ينطلق لتأمين أمنه الذاتي».
تنعكس ظاهرة «لجوء الناس إلى تأمين أمنهم الشخصي» في سجلات الصليب الأحمر على شكل نسب وأرقام تفيد، حسب حديث أحد المتطوعين في الهيئة، أن 30 إلى 40% من الحالات التي يستدعون إليها تتعلّق بحوادث ضرب بين مواطنين اختلفوا في معظم الحالات على أفضلية المرور.
إلا أن العدوانية سلوك مستجدّ ليس من طبيعة اللبنانيين. والدليل على ذلك موقف يتكرّر على لسان الكثيرين والكثيرات: «كسر عليي بسيارته، زمّرتله وسبّيتله، بس لما التفتّ، اكتشفت إنو صديقي فسلّمنا عبعض وما عدت معصّب!».