ريمون هنّودلسوء الحظ، فإنّ الأغلبية الساحقة من الأجيال الصاعدة لا تعرف أن منطقة كسروان هي المعقل الرئيسي للشيوعيين اللبنانيين الأوائل. فالأجيال الصاعدة، لا بل الكثيرون من متوسطي الأعمار اعتادوا على أن منطقة كسروان تمثل معقلاً أساسياً لأحزاب اليمين المسيحي. لذا، ومن أجل جلاء الحقيقة كاملة، أسمح لنفسي بسرد المعلومات الآتية: ــــ الكثيرون ما زالوا يعتقدون أن أبناء الطائفة المارونية (وأعتذر عن تسميتي لمذهب) هم أبعد الناس عن الحزب الشيوعي اللبناني، إنما في الواقع إن المؤسسين الأوائل للحزب جلّهم من الموارنة، من فؤاد الشمالي الكسرواني المؤسس للحزب عام 1924، إلى يوسف إبراهيم يزبك ابن بلدة الحدث الواقعة على ساحل قضاء بعبدا، ومن ثم انضمّ إليه المناضل الشهيد فرج الله الحلو ابن بلدة حصرايل ـــ قضاء جبيل، ومن ثم الياس البواري ابن مدينة جونية، والشهيد فرج الله حنين ابن بلدة المريجة، إضافة إلى الشاعر والأديب الياس أبو شبكة ابن بلدة ذوق مكايل الذي كان من أشد المناصرين للحزب الشيوعي والحاضر خطيباً وأديباً وشاعراً في معظم مهرجاناته. ففؤاد الشمالي ولد في بلدة سهيلة في جوار جبل حاريصا عام 1894، وانضم إلى الحركة النقابية عام 1916، وفي نهاية الحرب العالمية الأولى كان يعمل في مشغل للسجائر واكتسب تجربة نضالية، ثم سافر إلى بيسان في فلسطين حيث كان والده هناك، ومن ثم إلى مصر حيث شارك في إضرابات عديدة قام بها العمال في القطر المصري، وكان معه أيضاً عمال لبنانيون كنجيب الشمالي والمحامي أنطون مارون، وكلاهما كسروانيان.
انسحب فؤاد الشمالي من الحزب الشيوعي المصري نتيجة صراعات داخلية، وأسّس بعدها ما سمّاه بالحزب الاشتراكي السوري اللبناني في الإسكندرية الذي ضم في صفوفه عدداً من اللبنانيين والسوريين، وأبرق برسالة إلى جمعية «لبنان الفتى»، ساهمت في تأسيس الحزب الشيوعي في لبنان في ما بعد. وفي 11 حزيران 1923 استدعت إدارة الضبط بالإسكندرية فؤاد الشمالي وأنذرته بوجوب الكف عن الدعوة للاشتراكية، وحذّرته بوجوب الصمت، فلم يمتثل، فأجبر على مغادرة الإسكندرية في التاسع من آب عام 1923، ووصل إلى بيروت وكان ينتظره الرفيق الحميم يوسف إبراهيم يزبك.
ثم استقر الشمالي في بكفيا، ليعمل في أحد معامل التبغ، وأخذ ينتقي أشد العمال حماسة ونهوضاً، وأفهم كل فرد منهم بأنه مكلّف تأسيس حزب شيوعي، فأضحى عدد الرفاق عشرة في بكفيا، فعقد الاجتماع الشيوعي الأول في منزل الشمالي في بكفيا في 12 أيلول 1924، واتفق على أن يكتب هو إلى أحد فروع الكومنترن (الأممية الشيوعية) للاتصال به والحصول منه على نسخة من القانون العام للأحزاب الشيوعية.
أما المناضل الكادح والمؤلف الياس البواري فسيرته مشوّقة جداً. فهذا النابغة الذي ترك المدرسة في سن الثانية عشرة من عمره ساعياً لاكتساب لقـــــــــمة العيش والظفر بالرغيف، أضحى في ما بعد رئيساً لنقابة عمال المطابع، وواحداً من أبرز القادة النقابيين في بلادنا.
وفي عام 1929، وبعد تركه المدرسة، دخل مطبعة الآباء الكريمتيين في مدينة جونية ليتعلّم الطباعة، ومنذ ذلك التاريخ اشتغل عاملاً في المطابع يصفّ ويطبع مختلف الكتب لمختلف الناس، وانتســـــب إلى الحزب الشيوعي وكان عمره 20 عاماً، ورأى أن الشيوعية مدرسة هامة للإنسان المعاصر، حيث يصير النضال علماً ويصير العلم نضـــــالياً، والعامل في مقدوره أن يعطي نتاجاً ثقافيــــــاً يـوازي الأعمال
الأكاديمية.
طبعاً ليس كل من سار على هذه الدرب وصل إلى مثل هذه النتائج. فالدأب الشخصي للإنسان والإرادة وتنمية القدرات هي الأساس لهذا النجاح، وما حققه الياس البواري من إنجاز هائل تمثّل بانتقاله من عامل عادي إلى رئيس لنقابة عمال المطابع وهو لم يكمل علومه ولم يكن حاصلاً على شهادة «البريفيه» أقلّه، يشير إلى نبوغ هذا الرجل ونضاله. ودواليب المطابع دارت بدورها بعدما طبعت له كتاباً صار الآن واحداً من أهم الكتب عن تاريخ الطبقة العاملة، وهو كتاب من ثلاثة أجزاء وضعه الكادح العبقري تحت عنوان: تاريخ الحركة العمالية والنقابية في لبنان منذ العام 1908 حتى العام 1980، ومن الجوانب الهامة لهذا الكتاب التراث النضالي الذي خاضته جماهير شعبنا ضد الإقطاع والاستعمار، وفي الفصل الثاني من الكتاب وعنوانه التقاليد الكفاحية لجماهير الفلاحين، يعرض الياس البواري لمسيرة حركة الفلاحين في لبنان خلال الانتفاضات والعاميات الشعبية منذ عامية انطلياس 1820 وعامية لحفد 1821 والحركات الفلاحية عام 1840، مروراً بالفتن الطائفية التي كان رجال الإقطاع يثيرونها لطمس آثار الانتفاضات، وصولاً إلى ثورة طانيوس شاهين عام 1859 التي هدفت إلى توزيع الأراضي على الفلاحين بعد طرد أهالي الإقطاع منها.