ناهض حتر *يمثّل فلسطينيّو الأردن حالة خاصة فريدة من بين حالات اللجوء الفلسطيني من حيث الحجم (حوالى ثلاثة ملايين)، ودرجة الاندماج الاجتماعي (المرتفعة بالنسبة للكثيرين منهم)، والحقوق المدنية (بالنظر إلى حصول ثلثيهم على الجنسية الأردنية)، وأخيراً من حيث التجاهل السياسي لوضعهم كلاجئين ونازحين يتمتعون بحق العودة. اللوحة الفلسطينية في الأردن معقدة للغاية. فلا يمكن تناسي أن قسماً من الفلسطينيين قد أصبحوا أردنيين نهائياً، بالمعنى القانوني والاجتماعي ـــ السياسي معاً، بينما هناك قسم منهم يتمتع بالجنسية ولكنه غير مندمج، أما القسم الثالث، فهم نازحو غزة ومتسرّبو الانتفاضتين (1987 و2000). وهناك نزعة متصاعدة لدى تيار قوي بين فلسطينيي الأردن للتضامن ككتلة واحدة تتحوّل إلى طائفة ديموغرافية ـــ سياسية، تفرض «حكم الأغلبية» على البلد.
وتتغذى هذه النزعة من صورة اسشراقية عن الأردن، تنكر أصالة كيانه الوطني والهوية السياسية لشعبه. وفي رأينا أن هذه النزعة تتطابق، تماماً، مع المشروع الأميركي الخاص بالأردن.
وسأحاول تالياً أن أقدم مقاربة أولى تسعى إلى بلورة حل وطني ديموقراطي واقعي للقضية التي تكاد تعصف بمستقبل الأردن وشعبه وضيوفه من اللاجئين.
تمثّل حملة إبراهيم باشا على إقليم شرق الأردن (1835) نقطة فاصلة في تفاعلات التكوين الأردني الحديث. وقد قاتلته العشائر نصف الفلاحية ـــ نصف البدوية في إقليم شرق الأردن، بشراسة تعكس ميلها الاستقلالي المحلي، رافضة الخضوع للحكم المركزي المصري. إلا أن فترة الإدارة المصرية القصيرة، نبّهت الباب العالي إلى الأهمية الجيو ـــ سياسية للإقليم الذي يمثّل فاصلاً استراتيجياً بين مراكز المنطقة.
وجاء إلحاح العثمانيين على تنظيم الإدارة في الإقليم الأردني (اعتباراً من 1851) في أوانه التاريخي بالضبط، فساعد العشائر الفلاحية على بسط سيادتها ونمط إنتاجها الخاص في معظم أرجاء البلاد التي بدأت تحقق فائضاً زراعياً وتصدّر إلى السوق العالمي، وتشهد ولادة فئات من الفلاحين الأغنياء والأنتلجنسيا المحلية وترسيخ استقرار العشائر البدوية.
لقد انتصرت الفلاحة على البداوة، والوحدة على التفتّت، وتوحّد البلد على مركز اقتصادي داخلي (السلط) وسياسي (حلف البلقا) وعلى مخيال أدبي (نمر العدوان) ونمط قيمي. وكان كل ذلك وراء إعادة الاعتبار للدولة المحلية في شرق الأردن كما تصوّرها الباب العالي في فرمان تأسيس ولاية «معمورة الحميدية» وعاصمتها عمان (1908). وهو فرمان لم يتح له التنفيذ إدارياً لكنه كان قد قام سياسياً. ولذلك، لم تتأخر الحركة الوطنية الأردنية في الانبثاق العاجل سنة 1920 بعيد انهيار مشروع الدولة الفيصلية. ومن ثم برز الكيان الوطني الأردني في الإمارة فالمملكة.
في عملية النهوض الاجتماعي الأردني التاريخية في القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، ومع نشوء السوق المحلية والفئات الاجتماعية الحضرية الجديدة، نشأت الحاجة إلى استقدام فئات من التجار والمهنيين من فلسطين والشام، كما كان العثمانيون قد استقدموا الشركس والشيشان لأسباب سياسية، لكنهم لعبوا دوراً بارزاً في تطوير الزراعة في البلد، بينما لعب الأرمن دوراً مهنياً. وهكذا، ومن كل هؤلاء، نشأ الشعب الأردني الحديث. ثم أسهم اللجوء الفلسطيني ووحدة الضفتين في دفع تلك العملية التاريخية إلى الأمام. وكان أعلى تعبير عنها قيام حكومة سليمان النابلسي التي عكست تحالف الفئات الحديثة ـــ بالنسبة إلى ذلك الوقت ـــ من الضفتين. ولولا انهيار العملية الديموقراطية، ومن ثم احتلال الضفة الغربية، ونشوء حركة «فتح» (من خارج التركيبة الأردنية الفلسطينية)، لولا هذه التطورات السلبية، لربما سارت عملية تكوين الشعب الأردني الحديث بصورة أكثر سلاسة وديناميكية وتقدمية، كما كانت الحال قبل الاحتلال الإسرائيلي.
ومع ذلك، فإن قسماً كبيراً من فلسطينيي الأردن أصبحوا، واقعياً، قبل أن يكون ذلك قانونياً، جزءاً من الشعب الأردني. ونحن نعيش الآن في خضمّ تجربة تاريخية لولادة شعب موحّد بالمعنى المحلي للكلمة، وولادة وطنية أردنية جديدة تعكس كل مكوّنات المجتمع الأردني وتمزجه.
وتواجه هذه العملية التاريخية التقدمية، خطراً أساسياً ناجماً عن الفشل في مجابهة المشروع الصهيوني وانهيار المشروع الوطني الفلسطيني، وعودة الحلول الصهيونية من فدرالية وكونفدرالية... أو المناداة بتفتيت الشعب الأردني إلى طوائف ديمغرافية ـــ سياسية، إلى التداول. وهو الخطر الذي يطرح ضرورة اكتشاف الذات الوطنية وصهر المكوّنات الوطنية في شعب واحد، في عملية تاريخية هي امتداد لجذورها المنطلقة في القرن التاسع عشر.
وليس هناك مشكلات سياسية تعترض هذه الأطروحة بالنسبة لمكوّنات الشعب الأردني من الأصول المختلفة، بما فيها فلسطينيو الأردن لما قبل عام 1948. لكن المشكلة تتعلق باللاجئين والنازحين القادمين إلى البلاد بعد قيام الكيان الصهيوني على حساب المجتمع الفلسطيني وكيانه الوطني.
ووفقاً للأطروحة التي جرى إيجاز أبرز ملامحها سابقاً، نرى الآتي:
لا بدّ من معالجة المشكلة الناجمة عن الوجود الفلسطيني في الأردن، على مستويين هما:
أولاً، المستوى الحقوقي ـــ السياسي: وسنلاحظ، هنا، أن فلسطينيي الأردن لما بعد الـ48 في وضع خاص، حيث إنهم، جميعهم، لاجئون ونازحون يتمتعون، حسب القانون الدولي، بحق العودة إلى فلسطين. وهذا الحق هو حق نهائي وأبدي ولا يمكن التنازل عنه في ظل أية تسوية. لكن ممارسته اختيارية بالنسبة للفلسطينيين الحاصلين على الجنسية الأردنية وفقاً لقرار فك الارتباط لسنة 1988، فهؤلاء مواطنون أردنيون، ولا يمكن نزع هذه الصفة عنهم، قانونياً، لا الآن ولا في المستقبل. لكن ذلك لا ينطبق على الفلسطينيين المقيمين في الأردن (حوالى مليون نسمة)، ولا يتيح لهم قرار فك الارتباط الحصول على الجنسية الأردنية. هؤلاء فلسطينيون. ولا بد من حل المشكلة القانونية بالنسبة إليهم كالآتي:
1ـــ منحهم الجنسية الفلسطينية. 2ـــ منحهم حق الإقامة وكل الحقوق ما عدا السياسية في الأردن. 3ـــ التأكيد على النضال بكل الوسائل لتأمين عودتهم الفعلية إلى أرض وطنهم.
ثانياً، المستوى الاجتماعي ــــ التاريخي: سنلاحظ، هنا، أن فئات وعناصر من الأردنيين من أصل فلسطيني قد اندرجت فعلاً في العملية التاريخية لتكوين الشعب الأردني. وهذه العملية مستمرة ومفتوحة ولا تقصي أحداً. فواقع الأردن الاجتماعي ـــ السياسي يقول إن هناك مكوّناً فلسطينياً في تلك العملية، لكن المشكلة أن اندراج هذا المكوّن الفعلي في الشعب الأردني، لم يأخذ بعد أبعاده الثقافية والسياسية، أي إن اندماج الفئات الفلسطينية المتأردنة، اجتماعياً وتاريخياً، لم يُترجم في الوعي السياسي لتلك الفئات. وهي مهمة تقع على عاتق الحركة الشعبية الأردنية.
من واجب الحركة الشعبية الأردنية بقيادة اليسار، القيام بالآتي، تبعاً لكل وضع:
1ـــ الدفاع عن الحقوق المدنية والإنسانية للفلسطينيين المقيمين في الأردن، وحفزهم للنضال من أجل العودة إلى وطنهم أولاً على المستوى السياسي ـــ العودة السياسية ـــ أي الحصول على الجنسية الفلسطينية، وثانياً على المستوى الفعلي، أي العودة الواقعية.
2ـــ الدفاع عن حق الاختيار السياسي بالنسبة للفلسطينيين الحاصلين على الجنسية الأردنية وما زالوا مرتبطين، اجتماعياً وسياسياً، بفلسطين، سواء لجهة الاندماج في الشعب الأردني أم لجهة ممارسة حق العودة السياسية أو الفعلية.
3ـــ استقطاب الفلسطينيين المتأردنين، اجتماعياً وسياسياً، للاندراج في الحركة الشعبية الأردنية، سياسياً وثقافياً، على أساس وحدة الشعب الأردني، ورفض كل أشكال التمييز أو الانقسام على أساس الأصل، أو قيام محاصصة على أساس تكوين طوائف ديموغرافية سياسية في البلاد.
* كاتب أردني